«جدها يهودي» هكذا عثرت الصحافة علي صيد ثمين. صحافة تبحث عن فريسة.. ولا تنظر حولها.. ولا تدقق في فريستها. هذه الصحافة هاجمت نجمة السينما«بسمة» لأنها اكتشفت «جدها اليهودي».. وطالبتها ضمنياً بالاعتذار أو أن تخفي بلوتها.. و ربما تنكر علاقتها بجدها. هكذا بكل قلة ذوق ولياقة وفخر بالجهل والتعصب منقطع النظير. الجهل ينتصر منذ فترات وهذه أيامه...ولم يعد ممكنا أن توقف هؤلاء وتضع حداً لهوجات يقودونها ويحرقون فيها قيماً وأفكاراً دفعت البشرية غالياً من أجل الوصول إليها. لكن الجاهل الفخور بجهله له مؤيدون وأنصار ومشجعون.. يلبي لديهم غرائز انتقام وحشية.. ويقودهم مثل العميان لمشاركته في التهام الفريسة. بسمة جدها يهودي.. وما العار في ذلك. اليهود.. مصريون عاشوا سنوات طويلة.. وشاركوا في صنع حياة مصرية وبناء الدولة الحديثة حتي قامت كارثة العصر إسرائيل ودفع أغلبية اليهود الثمن ( بتواطؤ من الحكومات وقتها ) أو برغبات شخصية متعصبة للديانة أو بمشاعر الخوف من غد عنصري. لكن الأغلبية من اليهود المصريين هاجروا إلي فرنسا وأمريكا وربما إيطاليا وليس إلي إسرائيل.. وبقي منهم هنا بضع مئات.. حارب بعضهم في معارك وطنية ضد الاستعمار الجديد والقديم وضد الصهيونية أيضاً. ويوسف درويش جد بسمة من هؤلاء. وحتي قبل أن يشهر إسلامه عام 1948 لم يوقف حروبه ضد كل أشكال استغلال وقهر المصريين من الملك إلي الاستعمار إلي الحكومات المستبدة وكان مؤسساً في منظومات الدفاع عن العمال بمهارة المحامي ونفسية المناضل وروح القائد السياسي. اقتربت من يوسف درويش قبل رحيله بفترة قصيرة واحتفلت معه بعيد ميلاده ال95 وكما كتبت في حلقات خاصة عندما كنت أعمل في صحيفة «الفجر». ظل يوسف درويش يطاردني سنوات.. أقصد اسمه. تسمع عنه في حكايات كثيرة.. اسم بلا تفاصيل.. رمز أشياء لها تقدير.. واحترام. وعنوان حكاية مثيرة تختلط فيها اليهودية بالإسلام.. بالشيوعية.. بالسجون والاتحاد الاشتراكي.. بعبد الناصر.. وإسرائيل. بين الاحترام والإثارة كان اسم يوسف درويش يظهر ويختفي. وعندما قابلته وجدتها كلها حكايات ناقصة. هو المولود في سنة 1910 عندما كان حاكم مصر هو السلطان حسين. وابنته «نولة».. الباحثة والمترجمة.. والمهتمة الآن بحقوق المرأة (عضو مؤسس في جمعية المرأة الجديدة) شغلتها السياسة هي الأخري وذابت مع حركة الطلاب الشهيرة في 1972، السنوات الانتقالية من عبد الناصر إلي السادات. و الثالثة.. ابنتها.. حفيدته.. «بسمة» التي لم تعرف سوي حسني مبارك.. وهي مذيعة ثم ممثلة نجحت في التليفزيون والسينما رغم أنها ليست من «استايل» النجومية المعتاد في السنوات الأخيرة. حكاية عبر 3 أجيال من الاختلاف.. ودفع كل منهم ثمن الاختلاف علي طريقته.. لكن بسمة تدفعه بشكل مثير للاستفزاز في مواجهة الفخورين بجهلهم والرافضين لأي اختلاف.. يوسف درويش كان له اسم حركي هو «الحديدي»، أطلقه زملاء التنظيم بعد «صموده» في المعتقل قضي فيه 11 سنة متقطعة، وهذا ما جعله حكاية كبيرة في أساطير حركات اليسار في مصر.. أشهر محامي عمال من الأربعينيات.. ومؤسس تاريخي لتنظيمات العمال والفلاحين.. ومهندس خلايا سرية.. وأب روحي لحركات يسارية جديدة تتمرد علي متاحف اليسار القديم والتقليدي المستقر في تحالف مع السلطة والمستريح تحت مظلة الماضي المجيد. وجدته في أول لقاء شابا رغم العصا الخاصة التي تحافظ علي توازنه أثناء المشي، وفي السياسة كان توقيع يوسف درويش علي أغلب بيانات حركات المعارضة الجديدة.. «كفاية» «الحملة الشعبية من أجل التغيير».. فهو علي رأس الحالمين بمصر جديدة. سألته يومها: «كيف تري حياتك...؟» لم ينتظر تكملة السؤال: «.. شوف أنا عشت أيام عبد الناصر.. حقق إنجازات عظيمة.. الاستقلال.. وتأميم قناة السويس.. والسد العالي.. والصناعات الكبيرة.. لكن كل هذا ذهب مع الرياح، لأنه كان بلا ديمقراطية.. لم يدافع أحد من أصحاب المصلحة عن هذه الإنجازات.. لأن الشعب كان غائباً عما يحدث.. ولهذا وصلنا إلي الكارثة التي نعيشها..» .. كارثة لم يعرف الرجل الحديدي أنه سيدفع ثمنها هو وحفيدته.