في حيّنا نشبت مشاجرة بين مجموعتين، زادت حدتها، ولا نعلم لماذا اشتعلت الأمور من الأساس، اشتدت أكثر حتى وصلت كعادة المشاجرات في هذه الأيام إلى التقاتل بالأسلحة البيضاء والزجاجات الفارغة، ثم تطوّر الضرب حتى وصل إلى السيوف. إلى هنا الأمر ما زال في حيّز ما يحدث -بكل أسف- في هذه الفترة من عمر الوطن؛ فئتان تتشاجران ولم تستمعا إلى نداء العقل، وربما يتطوّر الأمر ويصل إلى وجود قاتل ومقتول، كل شيء جائز في هذه الأيام، وعندما تُحاول الاعتراض ستجد مَن يقول بأن هذه حريتنا الشخصية. لكن، أن يتطوّر الموقف حتى يُحضر أحد المتقاتلين سُلما خشبيا ويصعد إلى إحدى الشرفات لشقة أحد الجيران وهم خارجها، ثم يصعد عدد من رفقائه معه، ليتخذوا من الشرفة موقعا أفضل لإلقاء زجاجات المولوتوف على خصومهم، هذا ما لم يمكن تخيّله. ولم يكتفوا بذلك، بل قاموا بكسر الشيش والزجاج، ودخلوا الشقة على مرأى ومسمع من الجميع؛ ثم اقتحموا المطبخ وأخرجوا بعض الآلات الحادة؛ مثل السكاكين و"الشاكوش" و"مفتاح أنبوبة البوتاجاز"؛ لاستعمالها في المشاجرة الدائرة. بل وأخذوا راحتهم؛ حيث قاموا بإخراج الماء المثلّج وشربوا وأشعلوا السجائر، وألقوا برمادها فوق سجاد الشقة في أثناء تمتّعهم بفترة راحة خلال المشاجرة. هنا قد خرج الأمر من الحرية الشخصية في الشجار مع الآخرين إلى جريمة اقتحام وتعدٍّ على حرية الآخرين. بل لو تأمّلنا الموقف؛ فسنجد حالة استهتار عالية لم تحدث من قبل بكل القوانين والأعراف؛ فهؤلاء ليسوا لصوصا ولم يقوموا حتى بسرقة أو أخذ أي شيء من المنزل، ومَن حولهم مِن أهل المنطقة رأوا ما فعلوه تماما لكنهم صمتوا. كل هؤلاء اعتبروا أن مِن حقهم التام ممارسة البلطجة فعلا دون أي خوف من مساءلة أو محاسبة. فهم يعرفون جيّدا أن دوريات الشرطة وأن الأمن غير متفرّغ لحماية الملكيات الفردية أو المواطن أو حياته أو ممتلكاته، الأمن متفرّغ فقط لضرب المتظاهرين صباحا والتظاهر مساءً. بل إن أصحاب الشقة عندما وجدوا ما حدث بعد عودتهم، حمدوا الله على أن الشقة بخير، وعندما طالبهم البعض بإبلاغ الشرطة نظروا لهم بدهشة؛ متسائلين: "وماذا ستفعل الشرطة؟ فقط سيتسبّب ذلك في وجود ضغينة بيننا وبين البلطجية الذين اقتحموا الشقة، وربما تربّصوا بنا، ولن تحمينا الشرطة وقتها أو تُعيرنا أي اهتمام". ومَن يعيش بمصر الآن يدري جيّدا صحة هذا الكلام، وأنه لم يحدث شيء لو أبلغوا الشرطة، ولن يتحرّك أحد من الأساس. وهذا يجعلني أتذكّر تعريف الرئيس عن البلطجية، وأتذكّر بكاءه على الطفل الصغير الذي أخذت والدته 600 جنيه، ووضعت في جيبه شهادة ميلاده ليذهب ويمارس البلطجة في ميدان التحرير. ومع الأسف، دمعت عين الرئيس لهذا الطفل الافتراضي الذي لم نرَ أو نسمع أي تحقيق مع والدته حتى اللحظة؟ ولم تدمع لوقوع الوطن بأكمله في كف الفوضى؛ لأنه يصرّ أن البلطجة في التحرير وأماكن التظاهر؛ فيوجّه لها قوات الآمن، ويغضّ البصر على البلطجة الحقيقية التي يُعاني منها المواطن. وهكذا نسقط في فخين؛ فنجد قوات الشرطة والآمن تقتل المتظاهرين، بينما تترك البلطجية يمارسون حقّهم الطبيعي في الترويع والابتزاز والاعتداء على حرية المواطنين. وبهذا الشكل، نجد أننا تجاهلنا المشكلة الحقيقة التي تُؤرّق أغلب المصريين، وهي الغياب الحقيقي للأمن في الحياة... في شارعك في مدرستك في جامعتك في عربة المترو والطريق إلى عملك، وركّزنا فقط على الأمن السياسي. وهكذا ليت القائمون على إدارة البلاد بدلا من أن يتكلموا عن طفل لم يسمع عنه أحد حتى الآن أي تأكيد لوجوده أو لتحقيق مع والدته التي باعت ابنها للبلطجة، أن يُفكّروا في السبب الذي يمكن أن يُؤدّي بهذا الطفل وآلاف غيره إلى امتهان البلطجة حقا. أن يأمروا داخليتهم بأن تتوقّف عن مطاردة وقتل الثوار، وأن تتفرّغ قليلا لعملها في إقرار الأمن، وهكذا عندما تحدث مشاجرة كهذه يتواجدون لأداء عملهم الأصلي. فبدلا مِن تواجد الشرطة بقصر النيل لتهلك آلاف الجنيهات في قنابل الغاز لينزلوا إلى الشوارع ليلقوا القبض على المشردين الموجودين في إشارات المرور وتحت الكباري والعشوائيات وبدأوا بامتهان التسول، ثم سيتحوّلون إلى البلطجة، وعلى الشئون الاجتماعية أيضا أن تقوم بدورها، وتبحث حالتهم وتضع مَن يستحق منهم في الملاجئ، ومَن يستحق في الإصلاحيات بشرط أن تكون هذه الأماكن صالحة للاستخدام الآدمي. حتى تُوفّر لهؤلاء الأطفال على الأقل المأوى والمأكل، ولا يتحوّل مزيد من الأطفال الأبرياء إلى بلطجية. وهكذا.. فإن علينا حقا أن نعيد فِهم وتعريف كلمة بلطجي.. هل مَن يسرق أو يقتل فقط؟؟ أم مَن يعتدي على حقوق الآخرين؟ أم مَن يستهتر بالقانون؟ وعلينا كذلك تنظيم أولويّاتنا في التعامل مع البلطجية الحقيقيين. فأنا على يقين أن الحكومة لو قامت بمواجهة البلطجية بحقّ، وقامت بدورها الحقيقي في الأمن وفي الحفاظ على أطفال الشوارع، ومنعهم من الانضمام إلى البلطجة، واهتمّت بهم وراعتهم بدلا من إطلاق الرصاص على الأبرياء في الشوارع، لهدأ الثوّار لشعورهم بأن هناك شيئا يثلج صدورهم، وأن هناك أملا في الغد. حدّدوا أولويّاتكم وصحّحوا تعريفاتكم يرحمكم الله،،،