أولا شكرا لموقع "بص وطل"، أنا طبيب أبلغ من العمر 25 سنة خطبت من حوالي شهر ونصف بنت تحمل مواصفات هائلة مع فروق بسيطة في المستوى التعليمي والمادي لصالحي، مرت فترة 25 يوم من أسعد فترات حياتي، ثم بدأت المشكلات.. تعرضت خطيبتي لعدة مشكلات عصيبة في فترة قصيرة، وهي: إصابة إحدى صديقاتها بمرض السرطان، ووفاة أحد أقاربها، وتهديد من إحدى صديقاتها بالتدخل لفسخ الخطوبة، فأصيبت بانخفاض حاد بضغط الدم، وعلى مدار يومين تم عرضها على 3 أطباء شخصوا الحالة بصدمة عصبية، وتم وصف مهدئات ثم أصيبت بفقدان مؤقت في الذاكرة استمر لمدة أسبوع تقريبا.. بعد مرور يومين لم تتحسن الحالة، وبدأ أهلها في الاستعانة بالشيوخ معتقدين في السحر والحسد والأعمال، وعلى مدار 20 يوما يريدون إقناعي بالاستعانة بالشيوخ وأنا أرفض تماما، وخلال هذه الفترة كانت تتقمص العديد من الشخصيات اعتقد أهلها أنها من العالم الآخر، ولم أستطع أن أفهم ما هذا؟! أخذت أحاول إقناع الأهل وإقناعها بالعرض على طبيب نفسي وتم الرفض منها ومن بعض الأهل، وبدأ يتأثر عملي وأصبحت تقريبا مقيما لديها بالمنزل للوقوف بجانبها، ظللت أحاول إخراجها من هذه الحالة إلى أن استقرت الحالة ثم عادت بصورة أقل ثم استقرت من جديد، وهي الآن بصورة جيدة منذ 4 أيام. وأنا الآن في حيرة خوفا من تجدد الحالة وخوفا من الاستمرار في الخطبة ومن ثم الزواج، أهلي لا يعرفون شيئا باستثناء أبي الذي نصحني بقوة بعدم الاستمرار، أخذت قرارا أن لا أبتعد الآن إلى أن تتحسن الحالة وأخذت على عاتقي إكمال الحالة كطبيب، وأنا الآن في حالة تشوش كامل، هل أستمر وأتحمل تبعات هذا الموقف التي لا أعلمها أم أقرر الابتعاد؟ وهل في ذلك ظلم لها أم لا؟ أنا في منتصف المسافة الآن أفيدوني رجاء.
dr.buffon
أخي الكريم.. أهلا وسهلا بك، أنت تريد أن تعرف ما هذا، وسأحاول قدر استطاعتي أن أوضح لك في ضوء سطورك القليلة التي كانت تحتاج منك إلى مزيد من التفاصيل لتقل الاحتمالات المتعددة في التشخيص، والحقيقة أننا جميعا نحمل أعظم جهاز يمكن أن يمتلكه أي كائن، ألا وهو "الجهاز النفسي"، فالجهاز النفسي هو الجهاز الذي يتعامل مع الضغوط الخارجية والضغوط الداخلية طوال الوقت، فيحمينا من الارتباك أو الانهيار أو المرض النفسي بالكثير من الحيل والدفاعات النفسية والمقاومة، وكلما كان تماسك الجهاز النفسي عاليا كان تأثره السلبي للضغوط الخارجية أو الصدمات أقل وكانت العودة لطبيعته أسرع، وهناك اضطراب اسمه "اضطراب ما بعد الصدمة" ptsd، وهذا الاضطراب يحدث للأشخاص حين يتعرضون لحدث صادم جدا لهم، كوفاة شخص عزيز أو بسبب الحروب وما يتبعها من مشاهدة مجازر أو عنف شديد أو قتل.. إلخ، أو غيره من الأمور غير المتوقعة والصعبة جدا للاستيعاب بالنسبة إلى هذا الشخص، وهذا الاضطراب له سمة مرضية أساسية، وهي "الذاكرة الصدمية"، ولقد حدد الدليل التشخيصي والإحصائي الرابع للأمراض النفسية عدة أعراض نفسية محددة لهذا الاضطراب عام 1994، وهي: 1- تعرض الشخص لحادث صدمي شديد.. فيحدث تعرض أو مواجهة أو المرور بتجربة موت حقيقي، أو تهديد بالموت، أو إصابة بالغة، أو تهديد شديد للسلامة الشخصية أو لآخرين يهمونه. 2- تتم استعادة معايشة الحادث الصدمي بشكل أو بآخر بعدة طرق، مثل: تذكر الحدث بشكل متكرر ومقتحم وضاغط، وذلك يتضمن صورا ذهنية أو أفكارا أو مدركات، استعادة الحدث بشكل متكرر وضاغط في الأحلام، التصرف أو الشعور وكأن الحدث الصدمي عائد من جديد، انضغاط نفسي شديد عند التعرض لمثيرات داخلية أو خارجية ترمز إلى أو تشبه بعض جوانب الحدث الصادم، استجابات فسيولوجية تحدث عند التعرض للمثيرات السابقة. 3- التفادي المستمر لأي مثيرات مرتبطة بالحدث إضافة إلى خدر عام في الاستجابات. 4- أعراض زيادة الاستثارة بشكل دائم "الهيجان". 5- الأعراض مستمرة لمدة شهر على الأقل، أما إذا كانت أقل من شهر فيطلق عليها اضطراب الكرب الحاد. 6- يسبب هذا الاضطراب انضغاطا إكلينيكيا واضحا أو يؤدي إلى تدهور في الأنشطة الاجتماعية أو الوظيفية أو جوانب أخرى هامة. هذا ما أقره الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية منذ عام 1994، ولقد وجدنا في بعض الأحيان أن ظهور أعراض اضطراب ما بعد الصدمة قد يتأخر، فعند بعض الأشخاص يتأخر لعدة ساعات، وبعضهم عدة أيام، وبعضهم سنوات عديدة، ويتفاوت الاضطراب في مدته وشدته على طبيعة الشخص نفسه قبل الحدث الصادم ومدى تماسك وقوة جهازه النفسي، وعلى المناخ المحيط به ومدى قدرته على الاحتواء، وجعل الشخص في حالة شعور بالأمان وحضه على البوح ومناقشه أفكاره ومشاعره.. وهناك من لا يتمكن من استيعاب حقيقة الحدث الضاغط أو الصدمي، ونظرا لهشاشة التكوين النفسي لديه، أو لتأثير المعتقدات الموروثة من الناحية الدينية والثقافية والتربوية نجد أن الجهاز النفسي لا يتمكن من التعايش مع هذا الضغط النفسي، فيحدث ما يعرف بالانشقاق التحولي، فنحن جميعا لدينا عقل به كل مهام التفكير والإدراك والوظائف العقلية كلها، ولدينا مشاعر وهوية وذاكرة، وعلاقة بالذات وعلاقة بالآخرين والبيئة المحيطة، ووعي بذواتنا. ومن المفترض أنه في الحالة السوية كل هذا يتناغم ويتفاعل مع بعضه، والحديث في هذا المجال واسع ومتعدد، فهناك نظريات تحدثت عن تعدد الذوات داخلنا، ففي داخلنا جميعا طفل وحكيم ويافع: طفل لا يرغب في المسئولية ويرى الحياة صافية كلها متعة ومرح يتعامل بتلقائية وبراءة، وحكيم يذكرنا بالمفروض والواجب وما يصح وما لا يصح، ويافع عملي ناضج يتعامل مع الواقع وينسق بين الطفل والكهل حتى لا يغلب أحدهما الآخر فيشقى الإنسان بطفولته وعشوائيته واندفاعه والتمتع دون مسئوليات، أو بضمير حاضر طول الوقت يجعله يفتقر إلى التعايش والمرونة مع الناس والحياة والنفس، فيمسك زمام الشخصية ويوجه كل منهما في الوقت المناسب للموقف المناسب، وهناك نظريات تحدثت عن وجود جزء ثابت في الشخصية وآخر متحرك.. الثابت: هو الجزء المسئول عن بقائه آمنا مستقرا، والجزء المتحرك: هو الجزء الخاص بالتطور والنمو والانتقال من مرحلة إلى مرحلة، فيه الحركة والتجريب والمخاطرة والمغامرة، حتى مشاعرنا أو بمعنى أصح شعورنا له عدة مستويات فهناك اللاشعور، وما تحت الشعور، والشعور، ولكن المهم في هذا كله أن الشخص الهش أو غير المتوازن بدرجة كبيرة أو طبقا لحجم الحدث الصادم أو الضاغط يحدث لديه ارتباك وتأثر يجعل هذا التناغم في حالة من الارتباك، أو يجعل المتحكم في قيادة الشخصية أحد الذوات غير الناضجة له، أو قد يلجأ إلى حيلة كبيرة حتى لا يتعامل مع الذاكرة العادية التي لا تتحمل الضغط النفسي الشديد للأحداث بأن تنشق أو تنفصل فيشعر بالراحة، وتأخذ شكل فقدان للذاكرة لساعات أو أيام كما حدث مع خطيبتك، أو قد ينشق عنها الجهاز الحركي فتفقد التحكم فيه، فيظهر عند البعض حركات تبدو لا إرادية غير منتظمة أو تخشب وعدم قدرة على الحركة، وبالطبع نتيجة الموروث المتخلف لمجتمعنا لا يجدون إلا تفسير الجن والتلبس. وقد ينشق جزء من الشخصية فتظهر ازدواجية أو تعدد في الشخصية، فتتحدث بصوت مختلف أو تتصرف تصرفات مختلفة عن الشخصية الأساسية، ونتصوره جنا يتحدث أو صوت رجل داخل امرأة وغيرها من تلك التأويلات، وقد يحدث انشقاق كامل وليس جزئيا، فنجد الشخص الذي يغيب مثلا بالساعات أو الأيام لا يدري أين كان ولا ماذا فعل خلال تلك الفترة، ويكون حينها شخصا آخر تماما، غالبا يخرج في الشخصية الأخرى كل المكبوتات أو الرغبات التي لا يتمكن من القيام بها في الشخصية الواعية أمام المجتمع المعلن، ثم يعود مرة أخرى لمكانه وأسرته ولا يذكر أي شيء أو تفاصيل عن ساعات الانشقاق أو أيامه. والحقيقة أننا وجدنا من خلال الدراسات الخاصة بحالات اضطراب ما بعد الصدمة أن 30% منهم يشفون تماما وحدهم بمرور الأيام، وأن 40% يتعايشون ببعض الأعراض البسيطة، و20% يتعايشون مع أعراض متوسطة، و10% فقط هم من يظلون هكذا أو قد تتدهور حالتهم، لذا حاولت أن أوضح لك قدر الاستطاعة بعض التشخيصات التي ترتبط ارتباطا وثيقا بما تحدثت عنه، ألا وهو اضطراب ما بعد الصدمة، وبالمناسبة كلما كانت أعراض ظهور الاضطراب أسرع -أقل من 6 شهور- كانت نسبة الشفاء أعلى وأسرع. وكذلك قد تكون في حالة من انشقاق الوعي، وفي كلتا الحالتين أحب أن أوضح لك بشكل علمي أن هذا الاضطراب أو الانشقاق التحولي ليس درجة واحدة، ويمكن الشفاء منه، وكذلك هو مرض نفسي بجدارة لا دخل للجن ولا العفاريت فيه، وليس معنى حديثي أن التخصص النفسي لا يؤمن بهم، فهذا لا يمكن لأن الله سبحانه وتعالى هو من قال إنهم موجودون، ولكن نختلف عن من يتحدث عن الجن أو يرقون منه أو غيره -بعيدا عن الدجالين- في مدى هذا التأثير على الإنسان. فنحن وهم مخلوقات من مخلوقات الله سبحانه لا نملك نحن ولا هم قدرات مطلقة، فالقدرة المطلقة لله وحده ولا تأثير إلا كما قال الله تعالى خالقنا وخالقهم بأنهم يوسوسون أو يزينون الأعمال السيئة، ولكن في النهاية نحن من نفعل كل شيء، سواء جيد أو سيء وإلا سقط التكليف والثواب والعقاب، وكذلك لو كانوا يوقفون الزواج، ويربطون الزوج، ويفشِلون التجارة، وغيره، لماذا لم نستخدمهم في شل يد من يحاول هد المسجد الأقصى، أو إفشال تجارة المخدرات وربط نتنياهو وأوباما؟! استعد عقلك ولا تنساق وراء الجهل النفسي، فهي تحتاج إلى التواصل النفسي مع طبيب ماهر وثقة، يحدد لها أدوية ويتمم خطة العلاج بتبصيرها ومناقشة أفكارها وإدراك مشاعرها، لتعود شخصية متماسكة متناغمة بدلا من التيه الذي يقع فيه كل من حاول أن يطرق باب التفكير الخرافي ولم يفلح أحد، لأنه ببساطة يحتاج إلى علاج نفسي ليحدث التصالح والتناغم بين مكونات الشخصية من جديد. أما على المستوى العاطفي ورغم أني أراك شخصا عمليا عقلانيا، حيث لم تتحدث كثيرا عن المشاعر والحب، بل تحدثت عن الظلم لها من الجانب الإنساني وتفكر بالانسحاب، فهذا أمر يخصك وحدك، ولا يمكن أن يتدخل فيه غيرك لا أنا ولا حتى والدك، ولكن أقترح عليك أن تتحدث معها في وقت مناسب عن حاجتها إلى التواصل النفسي مع متخصص نفسي لا يعتمد فقط على الأدوية، لترى وتسمع معها حقيقة التشخيص وطريقة العلاج لتتعرف أكثر على الواقع الذي يمكنك التعايش معه بصدق دون أن تتورط في بطولة تتعدى طاقتك، فيكون أثرها عليك سيئا دون أن تساعدها أو تساعد نفسك، وكذلك دون أن تتورط في اتهام نفسك بأمور سلبية كالظلم والخيانة وغيرهما، والذي سيهز نظرتك لنفسك.. خذ بالأسباب واجتهد في إقناعها بأن تطرق مساحة العلاج الصحيح، واختبر قدراتك الحقيقية في التعايش والتعامل مع تفاصيل العلاج الخاص بها -والتي لا تتطلب الوجود اليومي معها كما تفعل- حتى تقرر ما تستطيعه، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ونحن مطالبون بأن نتحرى في الزواج لأن الزواج ليس نزهة وليس فراشا، ولكنه حياة وشراكة وتحديات ومسئوليات بجانب المتع المختلفة فيه، ونحتاج أن يكون معنا شركاء يعينونا على خوض الحياة بتحدياتها والقدرة على التمتع بمباهجها، وحديثي لا أقصد منه أبدا تركها أو الارتباط بها، فقط أردت أن أوضح لك الأمر لترى وتقرر، وفقك الله لما فيه الخير لك.