المكان كله لا يوحي بالارتياح على الإطلاق.. الضوء شديد الخفوت.. الجدران شبه متهالكة..
رائحة الرطوبة التي تزكم الأنوف.. أصوات الحشرات، التي دفعها الربيع للتغازل في موسمها السنوي.. وهو لم يشعر بالراحة منذ جاء إلى المكان..
ولكن الجميع قالوا: إنه سيجد علاجه هنا.. وعليه أن ينتظر.. ويحتمل..
حاول أن يسترخي، على ذلك الشيزلونج القديم، الذي اهترأت أطرافه، ولكنه لم ينجح في هذا أبدا..
تُرى لماذا يثق الكل في ذلك المعالج؟ أي إنجازات يحملها تاريخه، في هذا المجال؟ ولماذا هذا المكان؟ لماذا؟
شعر قلبه بذلك الخوف العجيب، عندما تناهت إلى مسامعه أصوات المارة في الخارج، فانكمش في مكانه، واتسعت عيناه عن آخرهما، ثم حاول أن يغلقهما ليقنع نفسه بأنه في مكان آخر..
ولكن أصوات المارة تزايدت.. وشعور الخوف داخله تصاعد.. وتصاعد.. وتصاعد..
وعلى الرغم منه، وعلى الرغم من أن هذا غير معتاد، وجد جسده يرتجف، على الرغم من محاولات التماسك..
ثم شعر بوصول المعالج.. وفي سرعة فتح عينيه، يُحدق فيه بشدة..
كان شديد النحول، غائر العينان، شاحب الوجه، أشعث الشعر، يرتدي معطفا، كان يتمتع باللون الأبيض، منذ عشر سنوات على الأقل، وأسفله يبدو سروال من الجينز، ضاع لونه من فرط القذارة..
وبلامبالاة، جلس المعالج على مسافة نصف متر منه، وأمسك ملفه، وراح يقرأ أوراقه في سرعة، قبل أن يهز رأسه قائلا: - لم أر حالة كهذه من قبل أبدا.
غمغم هو في أسى، يمتزج بلمحة خجل: - أعلم هذا. هز المعالج رأسه مرة أخرى، ومال نحوه يسأله: - لماذا تخاف منهم؟
أجابه في أسى: - لست أدري.. سأله: - هل تتصور أنهم سيحاولون إيذاءك؟!
تساءل، وهو يزداد انكماشا: - ولم لا؟! هز المعالج كتفيه هذه المرة، وهو يقول: - لأنه ما من سبب لهذا.
غمغم: - لديهم سبب بالتأكيد. قال في هدوء: - ليس إن لم تمنحهم أنت إياه..
تنهد في توتر، وبدا له ذلك الشيزلونج القديم، وكأنه تحول إلى سرير من المسامير الحادة، يؤلم ظهره، وهو يقول: - الخوف جزء من طبيعتهم أيضا.
هز المعالج كتفيه، وقال: - الخوف هو المحرك الرئيسي لكل كائن في الوجود.. يخاف البرد والرياح، فيسعى للحصول على مسكن يأويه.. يخاف الجوع، فيبحث عن طعام يأكله.. يخاف المرض، فيسعى إلى ملبس يقيه.. حتى عندما يحصل على كل هذا، يخاف أن يخسره، فيواصل عمله للحفاظ عليه.
غمغم في توتر: - لست أقصد هذا النوع من الخوف. قال المعالج في هدوء: - لعلك تقصد ذلك الخوف السلبي، الذي يعجز معه المرء عن العمل والكفاح، فيخسر كل شيء..
هز رأسه في قوة، قائلا: - ولا هذا أيضا. تراجع المعالج في مقعده في ضجر، وهو يسأله: - أي خوف تقصد إذن؟
صمت لحظات، عاد خلالها ينظر إلى الجدران المتشققة، والسقف الذي يكاد يسقط على رأسه، والباب المتماسك بالكاد، قبل أن يقول في خفوت: - الخوف من المجهول.
مط المعالج شفتيه، وهز رأسه، قائلا: - هذا نوع من الخوف الطبيعي. غمغم هو في دهشة: - حقا؟! أيوجد خوف طبيعي؟!
أجابه في سرعة: - بالتأكيد. ثم اعتدل في مقعده، مضيفا: - كل مخلوق لديه مخاوف طبيعية، هي التي تحدد مساره في الحياة، وقدرته على تجاوز ما يواجهه من عقبات.. والخوف من المجهول هو أكبر هذه المخاوف؛ لأنك تخشى ما لا تدركه، بأكثر مما تخشى ما تدركه، والوسيلة الوحيدة لكسر الخوف من المجهول، هي ألا يصبح مجهولا.
سأله في لهفة متوترة: - وكيف؟ مال المعالج نحوه، مجيبا في حزم: - بأن نواجهه.
امتقع وجهه، وتراجع يرقد مرة أخرى، على ذلك الشيزلونج القديم، وهو يغمغم في خوف: - نواجهه؟! أومأ المعالج برأسه إيجابا مرتين، ثم اعتدل قائلا: - هذا أشبه بحجرة مغلقة في منزل كبير.. حجرة لم يفتحها أحد من قبل.. والكل يخشى المبادرة بمحاولة فتحها، فتظل دوما مغلقة، لا يقترب منها أحد، حتى يجرؤ شخص على فتحها يوما، فيجد أنها حجرة خالية، لا خوف منها.. بل قد تكون الحجرة الوحيدة، التي تدخل منها الشمس..
امتقع وجهه، وراحت أطرافه ترتجف، وهو يقول: - هل تعني أنه من الضروري أن أواجههم؟! عاد يومئ برأسه، قائلا: - هذا هو الحل الوحيد.
اتسعت عيناه، وهو يزداد انكماشا على ذلك الشيزلونج القديم، فاكتسب صوت المعالج صرامة، وهو يقول: - اخرج الآن وواجههم.. اثبت لنفسك أنك لا تخف منهم، وربما خافوا هم منك. حاول أن يتخيل الفكرة، ولكن الخوف في أعماقه تصاعد بمجرد تصورها.. تصاعد.. وتصاعد.. وتصاعد..
على الرغم من كل محاولاته لمقاومته، لم يستطع منع تصاعده، فدفن وجهه بين كفيه، وهو يهتف: - لا.. لن يمكنني هذا. رمقه المعالج بنظرة، تجمع ما بين الدهشة والشفقة والازدراء، قبل أن يقول: - لا يوجد سبيل سوى هذا.
قالها في صرامة شديدة، فأبعد هو كفيه عن وجهه، وحدق فيه، متسائلا في صوت مرتجف: - وماذا عن العواقب؟ هز المعالج رأسه في قوة، وهو يقول بنفس الصرامة: - لا توجد أي عواقب.
تساءل بصوت أكثر ارتجافا: - وماذا لو فشلت؟ أجابه المعالج، وهو يلملم أوراق التقرير، وكأنه قرر إنهاء جلسة العلاج: - الخوف من الفشل دافع لتقدم أي كائن، ولو أنك خشيت الفشل، ستبذل جهدك لتفاديه، ولتحقيق النجاح.
ثم بدا وكأنه قد فقد أعصابه فجأة، وهو يضيف: - ثم إنه لا خيار لديك.. لا بد أن تحاول. كان قد لملم أوراق الملف، ونهض وهو يحمله، فحاول هو النهوض بدوره، من ذلك الشيزلونج، وهو يغمغم: - ما زلت خائفا منهم.
كان المعالج يهم بالانصراف، عندما سمع هذه العبارة، فالتفت إليه، يسأله في صرامة: - لماذا؟ ما الذي يمكن أن يفعلوه؟ تردد، وهو يجيب: - ربما طاردوني.
أجابه المعالج، بكل ضجره: - لن يفعلوا بالتأكيد. قال في توتر: - وماذا لو حاولوا قتلي؟
هتف المعالج: - ألم أقل لك: إنني لم أر حالة كهذه أبدا؟! ثم مال نحوه، مضيفا: - لن يقتلوك حتما. وانعقد حاجباه بشدة، وهو يضيف: - لأنك بالفعل ميت.. أنت شبح.. ألم تستوعب هذه الحقيقة بعد؟! لا تخف الأحياء.. هم ينبغي أن يخافوا منك.. حاول أن تستوعب.. أنت شبح.. شبح..
كان قد استوعب هذه الحقيقة بالفعل، ولكنه ما زال يحتفظ في أعماقه بتلك اللمحة الباقية من الحياة.. بالخوف.