تشاء الأقدار أن تجمعنا أنا والأستاذ وليد فكري في نفس الحلبة من جديد.. هناك أقلام لا تترك لك رفاهية مجرد القراءة، بل تصرّ على أن تستخرج منك رأيا، وكتابات صديقي وليد غالبا ما تترك في نفسي هذا الأثر؛ ربما لأن الرجل يُحقّق ويُدقّق جيدا ويتحرّى الحقيقة، فيخرج كلامه كحكم واجب يكون التعقيب عليه واجبا أيضا.. وربما لأن سعة صدره وتقبّله بالخلاف يغري بمناقشته.. المهم أن مقاله الأخير "أين الإسلاميون وأين الإسلام في البرلمان" يطرح سؤالا مهما أرى أن لي عليه إجابة مختلفة عما ذهب إليه.. ذهب صديقي وليد إلى أن الإسلاميين في البرلمان يرفعون شعارا لا يطبّقونه؛ بدليل أنهم فرّطوا في حق القصاص الذي هو مبدأ إسلامي عظيم، وردّ على من قد يخالفه بأن هناك ضرورات تقدم على مطلب القصاص مسبقا بأنه لا حرمة فوق حرمة الدم، وللحقيقة وجدت هذا المنطق مقلوبا، بأبسط مثال لو أن حريقا شبّ في عمارة سكنية فإن إطفاء الحريق مقدّم بالتأكيد عن البحث عن الفاعل.. ولا يطالب بغير ذلك إلا معجّز أو مجادل، ولا أظنّ صديقي وليد واحدا منهما.. ولأبيّن أن ما سلكه البرلمان المصري الحر لأول مرة هو المسلك الصواب أستمحي أخي وليد العذر أن ألعب في ملعبه وأتحدث في التاريخ الذي يعتبر أحد أعلامه من شباب المؤرخين، أقف معه على أصداء حادثة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه وأرضاه- حين وقف المسلمون فريقين بين من يطالب بثأر عثمان أولا، ويرفع قميصه عن حق وهو حزب معاوية وأقارب الخليفة الراحل، وبين من يرى استتباب أمر الدولة، والقضاء على الفتنة الوليدة، وتطهير البلاد من المرجفين فيها، مقدما على القصاص لدم عثمان، وكان هذا الفريق بقيادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ووافقه معظم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.. وحسب فهمي المتواضع -ولا أظن أخي وليد يخالفني- أن رأي علي رضي الله عنه كان هو الأقرب للصواب؛ فالقصاص لحادثة مهما كان حجمها لا يجب أن يكون ذا أولوية على إنقاذ دولة على حافة الانهيار، وهنا أظن أن أخي وليد -كمؤرخ- قد يخالفني أن بعض الطالبين للثأر كانت لديهم حسابات خاصة مقدمة على المصلحة العامة لدولة الإسلام؛ لدرجة جعلت المصريين يطلقون على من يقول كلمة حق يريد بها باطلا بأنه يرفع قميص عثمان.. أنا أتحدث وأنا واثق أن أيا ممن يقرأ هذا المقال لن يفهم أني أطالب بالتنازل عن الثأر أو التهاون في القصاص أو التفريط في حقوق الشهداء وإراحة قلوب ذويهم، ولكن قد أخالف في السبيل إلى تحقيق هذا القصاص وتوقيته، لا يقتنع طفل صغير بما يتم من محاكمات "بيروقراطية" بقوانين صنعها المتهمون لأنفسهم مسبقا، ويعرف الأستاذ وليد قبل غيره كدارس للقانون -إلى جانب التاريخ بالطبع فضلا عن عشرة أشياء أخرى- أن القوانين التي يحاكَم بها قادة النظام السابق ليست فقط تبرّئهم بل إنها قد تمنحهم هم حقوقا في الادّعاء على الشهداء.. ولذا فهل يأتي القصاص أن يضع المجلس العسكري في فم أهالي الشهداء "مصاصة" اسمها محاكمة مبارك ورجاله؟ أم يأتي القصاص عبر منظومة تشريعية وتنفيذية جديدة في دولة ذات مؤسسات حقيقية تقيم العدالة الحقيقية، لا العدالة التي فصّلها ترزية القوانين في النظام السابق.. قد يرتاح أهالي الشهداء إذا صرخنا وبكينا وطالبنا بإعدام الجميع؛ فهكذا صنع الرافعون لقميص عثمان، لعبوا على وتر المشاعر وأهاجوا القلوب المكلومة، وطافوا بالقميص والمصحف المدمى في الأحياء ورفعوها على المنابر.. ولكن هل ترى سيحصلون على حقوقهم التي يقرّها الشرع والقانون وأولها القصاص العادل إلا بمنظومة جديدة تبدأ من برلمان يضبط مشاعره ويتحرك وفق خطة ويمتلك استراتيجية نهضة حقيقية وسلطة تنفيذية حقيقية تقدر على تنفيذ قرار القضاء العادل النزيه.. القصاص للشهداء حق للمظلومين، ولكن القصاص لمصر ممن اغتصبها دهرا أكثر عجالة وإلحاحا.. وتهيئة أرضية صلبة لمحاكمات عادلة ناجزة أفضل من أرض مهتزة ستغوص بالحق إلى أسفل سافلين.. وأهمس في أذن صديقي وليد أنه لو لم يكن هناك إسلاميون في البرلمان وكان الدكتور عمرو حمزاوي -الرجل الفاضل الذي أحترم علمه ومبادئه- مكان د. سعد الكتاتني فهل كان في يده أن يفعل المزيد؟ وهل كنا وقتها سنسمع النيابة تتهم أم الدفاع يترافع؟ لولا حرصي على حسن استيعاب الأستاذ وليد لرأيي لما صرّحت به، ولولا معرفتي بتقبله لخلافي معه لما خالفته؛ فهو قبل كل شيء صديق وأخ يحلم مثلي بمصر تجمعنا فيها "الحرية"..