قد تندهش من موقفي تجاه مقاطعة الفن الجزائري، لكن أدعوك أن تسمعني للنهاية قبل أن تسبّني وتلعنني حتى لا تُصبح مثل الشخص "الجزائري"! مصري أنا مثلك تماماً، شعرت بطعنة قوية في كرامتي، وعروبتي، إزاء ما حدث من هجمات بربرية على جمهورنا المصري -شعباً وفنانين وسياسيين-الذي ذهب لتشجيع منتخب بلاده في مباراة رياضية من المفترض أن تحمل هدفاً نبيلاً وسامياً لكلا الفريقين، قبل أن يحوّلها الطرف الجزائري إلى موقعة حربية يستبيح فيها كل المحرمات من أجل الفوز، حتى وإن ساوى -من وجهة نظره- بين المصريين والصهاينة.
مصري أنا مثلك تماماً، في مطالبتي بسحب السفير المصري من الجزائر، ومعه كل أبنائنا المصريين، والاستثمارات المصرية من مصانع وشركات شاركت في بناء الجزائر وتعميرها بعد أن كانت نسياً منسياً، وطرد سفيرهم ذي المائة وجه، وألف تصريح مائع لا يُسمن ولا يُغني من جوع، حتى يعلموا قيمتهم الحقيقية بدون مصر والمصريين.
مصري أنا مثلك تماماً في دهشتي واستنكاري لكل ما كُتب وقِيل في الإعلام الجزائري -رأس الفتنة والفساد- من أكاذيب مغلوطة، وقصص وهمية، وتهويل لا ضمير أو ذمة فيه، صوّر مباراتهم في مصر بالجحيم، وصوّر شعبنا بالجزّارين، وصوّر أمن الاستاد بالمتحرّشين الذين استباحوا أعراض نسائهم وتعمّد تفتيشهن وتمرير الأيادي على أماكن حساسة بقصد الإهانة والذل، رغم أننا أكثر دولة ضحت بأرواح أبنائها، ودفعت دماءهم ثمناً لحفظ التراب العربي، وأعراض النساء العربيات!
بدأت معك عزيزي القارئ من نقاط الاتفاق في وجهة النظر، حتى أمتص غضبك، و"أثبتك" في مكانك حتى لا تتركني وتمضي وأنت تسبّ وتلعن حين أبدأ في الاختلاف وأنت الأرقى من ذلك والأكثر تحضراً، لذا اسمح لي أن أقول إن كل المقاطعات كوم، والمقاطعات الفنية كوم تاني، لا أسمح بها، ولا أقرّها بأي حال من الأحوال.. اسألني لماذا، أو قل لي "ليه"؟
نقطة للخلف، ونحن نتخيل سوياً عكس النتيجة.. فاز منتخبنا المصري بعد أن أمتعنا بأدائه "الرجولي"، وأثبت للعالم كله أنه منتخب "الفراعنة" الرجال، الذي أحرج منتخب "السامبا"، وتفوّق على "الطاليان"، وقهر "المحاربين"، وروّض "الأسود"، وركب على "الأفيال"، وكالمعتاد -بعد الفوز- نفس "الهمج" يُعبرون عن غضبهم وسخطهم بهجماتهم البربرية، وانقضاضهم الوحشي على كل ما هو مصري.. بالطبع كنا سنعترض، ونشجب، ونستنكر، لكن -بالله عليكم- هل كنا سنطالب بمقاطعة الجزائر، سواء على الصعيد الرياضي أو الفني أو السياسي؟
أتحدّى إن كان سيُفكر مخلوق واحد في ذلك في غمرة فرحتنا العارمة، ونشوتنا التي تخطّت الحدود، إذ كان أقصى ما سنفعله أن نسخر من همجيتهم، ونحن نُخرِج لهم ألسنتنا، ولن أبالغ إذا تصوّرت أن بعض العقلاء والمثقفين والسياسيين المصريين كانوا سيخرجون بدعوات الصلح والتصالح مع الجزائريين، كنوع من إبراز عقلانية الطرف المنتصر، وإبراز حكمته، ورجاحة عقله على الطرف الخاسر، حتى لا يفعل مثل المراهقين، ويتقبّل الأمر بروح رياضية، لنشد على أيديه ونحن نهمس في أذنه في نهاية الحديث: "يا أخي كلنا عرب، ويكفي أن الصاعد للمونديال منتخب عربي، لذا فلنشجّع جميعاً منتخب مصر باعتباره منتخباً عربياً قبل أن يكون خصماً ومنافساً".
ثم لماذا نرهب ونهرب من الاعتراف بخطئنا وتقصيرنا قبل أن ننظر إلى خطأ الآخرين؟
جميعنا -شعباً ولاعبين وجهازاً فنياً واتحاد كرة وفنانين ونظاماً سياسياً- كنا نعرف أن المباراة ستدور رحاها فوق صفيح ساخن، وكلنا قرأنا وعلمنا خبر إرسال الرئيس الجزائري "بوتفليقة" أكثر من 10 آلاف مشجع مجاناً إلى الأراضي السودانية، وكلنا -من زمان- نعرف تعصّب الجزائريين، ولا ننسى أحداثهم الدامية في أهم مبارياتهم الرياضية، سواء في الدوري الجزائري، أو الكأس، مروراً بكأس الأمم الإفريقية، وصولاً لتصفيات كأس العالم، فأين الاستعداد يا سادة؟!!
ما هي الخطوات التي اتخذها نظامنا السياسي الحاكم لتأمين أبنائه، والحفاظ عليهم؟!! ماذا فعل الكبار سوى إرسال "كريمة المجتمع" وصفوته للتشجيع والتهليل؟ أين قواتنا الخاصة التي كان يجب إرسالها بزي مدني حتى تجلس في المدرجات تشجع، وتمارس عملها الأول في التدخل وقت الشغب والتعصب لحماية المدنيين المصريين الذين لا خبرة لهم في فنون القتال، ولا يعرفون ولا يتخيلون كيف يرفعون أسلحتهم في وجه "البرابرة" المفترض أنهم أخوة في العروبة؟
أين التنظيم والتأمين الذي كان يجب دعمه بالتخطيط الاستراتيجي لمباراة مشحونة ولها أهمية استراتيجية للفريقين بدلاً من الذهاب هناك بالنية الحسنة وبركة دعا الوالدين على كام شعار حلوين؟!! وفيما يتعلق بمنتخبنا الوطني نفسه، أين الأداء الرجولي والحماس الملتهب والعزيمة المتقدة التي رأيناها في منتخب "الخضر" بدلاً من منتخبنا؟
الإجابة -وبكل أسف وخيبة- هي: لا شيء من كل ما سبق.
النقابات الفنية في مصر تعلن مقاطعتها للمهرجانات والتظاهرات السينمائية في الجزائر؛ اعتراضاً على ما أصاب الفنانين المصريين في الجزائر؟ ممدوح الليثي -رئيس الاتحادات الفنية المصرية- يعقد اجتماعاً للنقباء مع أشرف زكي -نقيب الممثلين- ومنير الوسيمي -نقيب الموسيقيين- ليقرروا وقف كافة أشكال التعامل مع المؤسسات الفنية والثقافية الجزائرية، بما في ذلك المهرجانات الفنية.
أين كان هؤلاء الفنانون الذين ذهبوا لدعم المنتخب الوطني في مباراته الفاصلة بالسودان من قبل؟ لماذا لم يذهبوا لمساندة المنتخب الوطني في كافة مبارياته التي لعبها خارج أرضه؟ هل ذهبوا لتشجيع المنتخب في مباراته مع "رواندا"؟
هل جرؤوا على الذهاب لنصرته وهو يلاعب "الجزائر" على أرضها؟ بلاش يا سيدي.. كام واحد من الذين ذهبوا إلى السودان ذهب إلى استاد القاهرة لتشجيع المنتخب في مباراته مع "زامبيا"؟ عيب والله يشتغلونا إلى هذا الحد.. عيب أن يخفوا أنهم ذهبوا إلى "السودان" الشقيق من أجل الشهرة على "قفا" منتخبنا الوطني؛ إذ ذهبوا وهم يعلمون أنها مباراة تتويج لمنتخبنا الوطني.. ذهبوا لتسلط عليهم الأضواء والكاميرات، ويؤكدون في حواراتهم وتصريحاتهم أنهم ذهبوا لمساندة ودعم منتخبنا الوطني، وتنزل صورهم في الصحف والمجلات وهم يهنئون لاعبي المنتخب ويرقصون فرحاً وابتهاجاً، ولو كانوا حقاً وطنيين، ومشجعين من القلب لساندوا المنتخب في كل مبارياته مثلما ساندناه نحن المصريين، واحترقت قلوبنا على عثراته وسقطاته، لكن هذا -في الوقت نفسه- لا يعطي الحق لأي بربري أن يعتدي عليهم.
نرجع بالذاكرة للخلف أكثر؟ عندما انتصرنا في تصفيات 89 على المنتخب الجزائري بنفس النتيجة، وفقأ نجم المنتخب الجزائري -وقتها- "الأخضر بلومي" عين طبيب المنتخب المصري، وعبّر بعض الجزائريين عن غضبهم، وتعصّبهم.. هل قاطعت النقابات الفنية المصرية أو الفنانون المصريون الفن الجزائري أو المهرجانات الجزائرية؟!! كلا بالطبع.
نرجع للخلف أكثر.. عندما قاطعت الدول العربية مصر عقب اتفاقية "كامب ديفيد"، وأخذت موقفا حازما جازما ضد كل ما هو مصري.. هل ينكر أحد أن الفن المصري والفنانين المصريين هم الذين لعبوا دوراً كبيراً في نشر ثقافتنا المصرية، ولهجتنا المصرية، وموقفنا المصري، وخفة ظلنا وشهامتنا المصرية، ليكون الفن أحد أهم العوامل الرئيسية لرأب الصدع الذي وقع بين مصر الأخت الكبرى وشقيقاتها، قبل أن تعود الزعامة والريادة لمصر من جديد بعد فترة من القطيعة.
الفن يا سادة مهمته إصلاح نفوس الشعوب، وإذابة الخلافات والضغائن، لذا لا ينبغي أن نتخذه أداة ووسيلة للحرب إلا على السلبيات والجهل والتعصّب، لكن لا يجوز أبداً أن نتخذه وسيلة عقاب أو أداة سياسية، بل هو أصلاً مهمته إصلاح ما أفسده السياسيون.
الآن علينا أن نراعي أن أحداث الشغب التي حدثت هي في الأصل لعبة سياسية من النظام الجزائري، ووسائل الإعلام الجزائرية التي بدأت بالحرب، وبث الكراهية المسمومة، ونشر الأكاذيب والروايات الوهمية لتسخين الشعب الجزائري، وتصوير قاهرة المعز بالجحيم الذي حرق المشجعين الجزائريين وأرسلهم إلى بلادهم في توابيت، وبالطبع هذا موقف لا أحتاج أن أخبركم أنكم إذا كنتم فيه لكان رد فعلكم يكاد يكون متشابهاً، بخلاف تقصير سفير الجزائر في مصر بعدم الرد الحازم الجازم على أكذوبة نعوش الجزائريين التي زعمت وسائل الإعلام الجزائرية أننا شحناها إلى الجزائر بعد أن قتلهم المشجعون المصريون في مباراة مصر والجزائر التي أقيمت في مصر!
نعم الشعب الجزائري متعصّب بطبعه، وطبيعته!!! لكن العصبية لم تصل إلى هذا الحد، إلا بوجود من يلعب في الرؤوس، ويبث السموم والضغائن في النفوس، وينفخ في النار في الخفاء، حتى انفلت العيار، وانفجرت الأزمة.
نعم الشعب الجزائري يندفع "بعض" أفراده بدافع القبلية والهمجية البربرية، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقول إن مسجلي الخطر الذين تم إخراجهم من السجون، وشحنهم على الطائرات ال"سي 130" إلى "السودان"؛ ليشتروا من الأسواق "السودانية" الأسلحة البيضاء، ويدخلوا بها الاستاد بهدف إثارة موجات العنف والكراهية؛ هم الشعب الجزائري الحقيقي.
نعم نأخذ موقفا سياسيا "شريفا" ضد لعبة سياسية "غير شريفة"، ولنترك الباب مواربا حتى يلعب الفن والفنانون دورهم الحقيقي في رأب الصدع، ولمّ الشمل؛ لأننا في الأصل لا نأخذ المواقف بغرض القطيعة الأبدية، وإنما بهدف تذكير المخطئ بخطئه، ليندم على ما اقترفه من جرم وذنب، ويفيء إلى صوابه.