"عليكم أن تراجعوا مفاهيمكم عن الجهاد".. هكذا طالب الدكتور يوسف القرضاوي -رئيس الهيئة العالمية لعلماء المسلمين- مرتكبي تفجيرات مترو موسكو، وهي التفجيرات التي راح ضحيتها 50 قتيلاً؛ فضلاً عن مئات الجرحى بعد أن قامت انتحاريتان بتفجير نفسيهما في محطات الأنفاق. ويلاحظ أن هذه هي ليست المرة الأولى التي يُطالب فيها القرضاوي بمراجعة مفاهيم الجهاد عند بعض الجماعات وعلى رأسها القاعدة؛ حيث شدد القرضاوي على رفضه التام لأحداث 11 سبتمبر فور وقوعها. وتنشط الجماعات التي تتبنّى فكر القاعدة بشكل كبير في دول آسيا الوسطى القريبة من روسيا، وعلى رأسها الشيشان بالطبع؛ وذلك لمرور تلك الدول بفترة كبيرة من القمع السوفييتي لهويتهم الدينية، بما جعل من السهل عليهم أن ينجذبوا للتطرّف لإثبات أنهم متمسّكون بدينهم وليسوا مفرّطين فيه. يُشدد القرضاوي -في خطبة ألقاها للتصدّي للفتاوى التي تسمح بقتل المدنيين- على أن القرآن الكريم أكد بأن للمدني حُرمة وفقاً للآية الكريمة القائلة: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}، مضيفاً أن الرسول الكريم "صلى الله عليه وسلم" أمر المسلمين ألا يقتلوا شيخاً أو امرأة أو طفلاً في وقت الحرب. ويقول القرضاوي أيضاً إن عمليات التفجير التي تستهدف المدنيين تعمق من صورة المسلمين كإرهابيين، وتؤذي صورة الإسلام والقرآن فقط، خاصة أن من قُتلوا في مترو موسكو ليس لهم ذنب في قرارات قادة بلادهم ، وأنهم كانوا وقتها في طريقهم إلى أعمالهم وليس إلى قتال المسلمين. وتأتي تصريحات القرضاوي كجزء من صراع فكري بين الجماعات المتشددة التي تسير على نهج القاعدة، وبين الفكر الذي يُحاول أن يضع الجهاد في إطاره الصحيح، إذ سبق للقرضاوي أن أكد أكثر من مرة على أن قتل المدنيين الإسرائيليين يختلف عن قتل غيرهم من المدنيين للكثير من الأسباب؛ أولها أنهم جميعاً تقريباً على قوة الاحتياط الإسرائيلي بمعنى أنهم جنود بثوب مدني، كما أن الاحتلال في فلسطين إحلالي، بمعنى أن إسرائيل تُخرج الفلسطينيين من أراضيهم، ولا تكتفي باستغلال خيراتهم بما يجعل المعادلة هناك "إما بقاء الإسرائيلي أو بقاء الفلسطيني". إلا أن القرضاوي في المقابل أكد أنه لا يجوز التعدّي على المدني الأمريكي أو الروسي أو غيرهما من الشعوب التي قد تعتدي حكوماتها على المسلمين، وذلك وفقاً للمبدأ القرآني: "لا تزر وازرة وزر أخرى" بمعنى أنه لا يجوز معاقبة شخص على ذنب لم يرتكبه. ولعل هذا هو ما يدفع الكثير من تلك الجماعات المتشددة إلى الوصول إلى حد "تكفير" القرضاوي، واتهامه بأنه يسمح ب"التفريط" في ما يقرّه الإسلام، ويمكن متابعة ذلك من خلال غالبية المواقع السلفية الجهادية التي تتبنّى فكر القاعدة والجماعات المشابهة لها، حيث يقولون -على سبيل المثال لا الحصر- إنه (القرضاوي) أحلّ الربا، من خلال السماح لمسلمي أوروبا بالحصول على قروض بفائدة لشراء منازل تؤويهم، على الرغم من أن سماح القرضاوي بهذا لم يكن إلا في حالة لم يتمكن المسلم هناك من تأجير منزل؛ لأن معظم الدول الأوروبية لا يوجد فيها منازل للإيجار إلا في قلب المدينة وتكون غالية للغاية، ليكون الخيار أمام مسلمي أوروبا إما الحصول على قرض بفائدة أو المبيت في العراء، ولا شك أن ضرر الأولى أخف. ولا شك أن الأزمة الحقيقية التي تواجه القرضاوي، ومن مثله من رجال الدين المعتدلين، أنه عادة يكون من الأسهل إقناع الناس العاديين بوجهة النظر المتطرّفة في ظل ما يُعانيه المسلمون من ضعف يدفع كثيرين للتجرؤ عليهم، ويدفع المسلمين تلقائياً للرغبة في الانتقام، ولو كان ذلك بالمخالفة لدينهم نفسه، لذا يتبنّى الكثيرون التفسيرات الأكثر تشدداً. ويتأكد بذلك أن الغرب يصنع أعداءه بنفسه؛ إذ إن الاعتداءات الأمريكية في أفغانستان والعراق، ودعم إسرائيل المطلق من جانب الغرب، فضلاً عن وجود دول أخرى تمارس انتهاكات بحق مسلمين -في الشيشان مثلاً- يساهم في تفريخ المزيد من الإرهابيين بدلاً من الحد منهم، ولعل هذا هو ما دفع القرضاوي لمطالبة روسيا بألا يكون حلها للمشاكل مع مسلمي وسط آسيا بالعنف، ولكن بالحوار تجنباً لزيادة التطرّف على الجانبين.