كتبت أول عمل لي في الصحافة وكان عمري 17 عاماً عن "الأواخر في الثانوية العامة"؛ فقد لاحظت أن الجميع يحتفلون بالأوائل لحظة إعلان النتائج ويتناسون من فشلوا ولا يبحثون عن أسباب الفشل. واستمعت باهتمام واحترام لمن رسبوا في الثانوية العامة آنذاك، واختلفت الأسباب بين صعوبة الامتحانات، وسوء الحظ، وإهمال المدرسين، والضغط الزائد من الأهل، أو تخلي الأهل عنهم، وعدم توفير المناخ المناسب للمذاكرة، ولم يقل أحدهم إنه مسئول تماماً عن الرسوب. اتركيه يرسب!! ومنذ سنوات وجدت صديقة تنصح زميلة تعاني من إهمال ابنها في المذاكرة بتركه ليرسب؛ ليتعلم من الفشل، وأكدت أنها فعلت ذلك مع ابنها الذي تعذّب كثيراً لرسوبه في الثانوية العامة؛ بينما نجح أصحابه، ولذا سارع بالمذاكرة بجدّيّة بالغة في العام التالي، والتحق بكلية مرموقة، وواصل تفوّقه حتى تخرّج. واعترضتُ يومئذ وقلت لها: إن حالة ابنها استثناء، وليست قاعدة؛ فليس كل من يرسب في الثانوية العامة أو يفشل في حياته يخجل من الفشل ويسارع بتعويض نفسه؛ فالأسهل دائماً عدم الاعتراف بالفشل وإلقاء مسئولية على الآخرين. الإنكار أو العار!! وهو ما لاحظته خلال رحلتي الطويلة؛ فنادراً ما يعترف إنسان بدوره الحقيقي في الفشل الذي انزلق إليه؛ فإما أن يتمادى في إنكار أية مساهمة منه في الفشل أو التورط في وصم نفسه بالعار لأنه فشل، وكيف خان ثقة أهله فيه، وأنه لا يستحق حبهم واحترامهم، وقد ارتطم بشدة عند سقوطه على الأرض، وتحوّل إلى فتات متناثرة من المستحيل أن يتم ضمها ليعود إنساناً وليس أشلاء متناثرة؛ فقد ضاعت أحلامه للأبد، ولا يوجد أمامه سوى القبول بالفشل ونتائجه اللعينة. ما بعد الفشل!! وهناك من يبرر الفشل بأنه شيء طبيعي في الحياة، والجميع يفشلون من وقت لآخر، وأن الأمر عاديّ، ولا يجب التوقّف عنده. ومن المؤكد أننا جميعاً لابد أن نتعرض للفشل من آن لآخر؛ ولكن من الضروري التوقّف عنده بأمانة تامة لنعرف دورنا فيه؛ فقد نتعجل تحقيق الأهداف دون التأكد من ملاءمة ما نريده مع الواقع. وهذا لا يعني التخلي عن أحلامنا والانكفاء تحت سطوة الواقع؛ ولكن لابد من الوعي بما يمكننا تحقيقه في اللحظة الراهنة، والسعي لزيادته تدريجياً مع الاحتفال بما تمكّنا -بمشيئة الرحمن بالطبع وفضله- من إنجازه. لنقتل بؤر الإحباط اللعين أولاً بأول، ولنزرع التفاؤل الذكيّ بإمكانية تحقيق ما هو أكثر وأجمل؛ ولو بعد حين. والتفاؤل الذكي هو ما يطمئن صاحبه، وهو يسعى بجديّة ومثابرة ووعي، إلى أن الرحمن يبارك في السعي، ويمنحنا الأفضل في أحسن توقيت. بعثرة وتفتيت!! وقد نفشل لأننا نبعثر أوقاتنا في أمور غير هامة؛ فلا نجيد ترتيب أولوياتنا في الحياة، ولا نتقن احترام نعمة الوقت ونترك الآخرين يستخدموننا -أثناء أوقات فراغهم- فيما يرضيهم، والأذكى ألا نترك أنفسنا لنستبيح أوقات العمل أو الدراسة، ولنتذكر أن الآخرين يكلموننا بالهاتف في الوقت الذي يناسبهم، وهذا حقهم، لكن من حقنا أن نختار ما يتناسب مع حقوقنا. ويحدث الفشل كثيراً لأننا نقوم بتفتيت طاقاتنا في صراعات يمكن تجنّبها مع شركاء الحياة في الأسرة أو مع زملاء العمل والرؤساء. وبالطبع نرفض الخضوع لما يريده هؤلاء، ويتعارض مع أجنداتنا الخاصة أو يمس الحفاظ على الكرامة؛ فلا مجال للتجنب، وهذا لا يعني الصراخ؛ فهو لغة الضعفاء، ويبدد الطاقات ويشعل الخلافات. وأرفض التوسل لهم لمنحنا حقوقنا؛ لنتائجه الضارة، وأكره التهديد؛ لمساوئه الكثيرة، والأفضل الاستعانة بالرحمن أولاً ثم تهدئة النفس، والبحث عن مخارج واقعية لإزالة الاحتقان في العلاقات، ثم تخفيف حدّته، وفكّ الاشتباكات الواحدة تلو الأخرى وعدم السماح للغضب بقيادة حياتنا حتى لا نحصد الخسائر. التنظيف أولاً بأول!! ويحدث الفشل بسبب توقّع اهتمام الآخرين بنا، وتوفيرهم الأسباب التي تساعدنا على النجاح أو سعيهم لمنحنا الراحة بعد أي مجهود نبذله، ونتناسى أننا المستفيدون من النجاح، وعلينا توفير كل ما يساعدنا للفوز به مع تنظيف كل الغبار الذي لابد أن يلحق بنا أثناء سعيِنا للنجاح أولاً بأول؛ حتى لا يتراكم فيؤذينا أو يعرقل مسيرتنا ويجعلنا أقل مقاومة للفشل. وأقصد بها الإحباطات العاديّة؛ بسبب مشاكل العمل اليومية أو متاعب المواصلات والضغوط المادية وسوء أخلاق بعض من نتعامل معهم. ويتوهم البعض أن حياة الناجحين سلسلة من النجاحات المتواصلة وهو ما يخاصم الواقع. وأتذكر ما قاله رجل الأعمال صلاح دياب، أنه تعرّض للفشل كثيراً؛ ولكن الناس لا يرون إلا النجاح، وكان يحلم بأن تصل مبيعاته من الحلوى مائة جنيه في اليوم، وأخبر زوجته بذلك؛ فأكدت له أنه سيصل لهذا الرقم يوماً ما. وقد اعترفت له فيما بعد أنها كانت تقول له ذلك من قبيل التشجيع فقط، والآن يبيع يومياً بالآلاف لأنه لم يستسلم للفشل. بحب واحترام!! والأذكياء وحدهم هم من يحتضنون أنفسهم بحب واحترام عند الفشل ويهمسون بثقة واطمئنان: هذه فترة مؤقتة للغاية ومرحلة في حياتنا، وسنجتازها بأفضل ما يمكننا بمشيئة الرحمن بالطبع، وسننتزع منها الخبرات لنتعلم منها نحن ومن نحب، إذا أرادوا؛ وبذا نقلّل خسائرنا ونحوّل بعضها إلى مكاسب. وينتهزون أوقات الفشل لتصحيح مساراتهم في الحياة وفلترة تفكيرهم وتصرفاتهم والإبقاء على الجيد، والذي ثبت بالتجربة فائدته الحالية والمستقبلية والاحتفال به واحتضانه بحب واعتزاز. والتصفيق للنفس دون مبالغة بالطبع، وطرد ما ثبت ضرره من الأفكار ومن العلاقات أيضاً دون إساءة إليهم وبلا محاضرات؛ منعاً لإهدار الطاقات؛ فالأذكى ادخارها لتجديد خلايا الانتصارات في الحياة؛ فلا نمنح ثانية للهزائم ومن يقودوننا إليها. "ولا جرام فشل!!" وأتذكر زوجة أخبرتني أن وزنها زاد ثلاثين كيلو في أربعة أعوام، وأن هذا الأمر يؤذيها نفسياً وصحياً، وتدهورت علاقتها الحميمة بزوجها، وفقدت الثقة بنفسها، وتتعذب كلما رأت سيدة رشيقة. وقد بدأت مشكلتها عندما تجاهلت أول الزيادات واكتفت بشراء ملابس أخرى. وهو ما يفعله من يتجاهلون إصلاح ظروفهم وتحسين إمكاناتهم وتطويرها وتغيير عاداتهم التي تستدعي الفشل؛ فيتراكم بقسوة. فلنتعاهد على التخلص من أي جرام فشل أولاً بأول، ونضع مكانه كيلوات من النجاح؛ لأننا نستحق ذلك. ولنتذكر قول قائد منتصر: كل شبر تتنازل عنه للأعداء سيتبعه ضياع أميال منك. لذا فكل محاولة لتبرير الفشل وعدم مواجهته بذكاء ومرونة وتدرّج؛ ستسمح له بالإقامة أياماً، وربما شهوراً وأعواماً!! ولنتذكر دائماً أن الحياة لن تعطينا أفضل؛ مما نعطيه لأنفسنا، وأن من العار أن نختنق بالفشل؛ بينما في إمكاننا الانتعاش بالنجاح ونثر عطوره الرائعة لنا ولكل من نحب.