سالي عادل انتهت الفتيات من تزيين المذيع اللامع الذي خرج إلى الجمهور يقول: "ها هو موعدكم مع برنامجكم الأسبوعي المباشر "فكرة البليون" ومعنا في هذه الحلقة الأديب الشاب أشرف نور ليجلس معنا إلى آلة الأفكار، ويذهب معها إلى حيث تأخذه، فإما يعود لنا بقصة ويدخل إلى نهائيات البليون وإما..". وأشار المذيع إلى أشرف أن يجلس إلى الآلة وهو يقول: "أو يُفقد للأبد". وقفت الكلمة في حلق أشرف، فابتلع ريقه، وخطا إلى المقعد المخصص له، تابع المذيع: "أنت أديب يا أستاذ أشرف، وتعرف أن هاجس الأدباء الدائم هو فقدان الوحي.. أن تجف الأفكار أو تنفذ من العالم.. كان الأقدمون يعتقدون أن لكل شاعر شيطان يهيم خلف الوحي في الوديان.. أما الآن.. فستمنحك هذه الآلة فرصة استثنائية لأن تحيا حياة غير عادية ستكون هي وحيك، وستكون أنت بطل قصتك قبل أن تكون مؤلفها.. هكذا.. بهذه الآلة نضمن توليد الأفكار بشكل مستمر.. لكن.. لو كنت تظن أن هذه الآلة ستمنحك الفكرة على طبق من فضة ثم نمنحك بعدها فكرة البليون فأنت مخطئ، هذه الآلة ستضعك في أسوأ كوابيسك هنا والآن، دون أن تسافر عبر الزمن أو إلى بلد آخر.. فقط ستفكك جزيئاتك ثم تعيد تكوينها في مكان آخر داخل مصر.. في ظروف شديدة الإثارة كمواقف درامية يحلم أي مؤلف بكتابتها، ووحدك تتاح لك الفرصة، فانجُ بنفسك وتعالَ لتخبرنا عن التفاصيل الشيقة التي عشتها قبل نهاية الأسبوع القادم. ثمة خبر لا أدري إن كان سيسعدك أم لا، لكن أخبرك أنه طوال هذا الموسم لم ينجُ أحد من الآلة.. وهذا يعني أن فرصتك في الفوز ضئيلة حيث لم ينجُ أحد، وفي نفس الوقت فرصتك كبيرة حيث تقل المنافسة، فلم يعد من متسابقين سواك ومتسابق آخر للحلقة التالية. نصيحتي لك، صدّق أنك في مأزق، لأن الذي يبدأ في التفكير بأنه واهم وأن الآلة أدخلته في حلم سرعان ما يفيق منه يُفقَد سريعا.. ثم أشار المذيع إلى رجل مهيب ليتقدم: "أعرفك إلى قارئ الأفكار الذي سيكون وسيلتنا للاطمئنان عليك، فسنعرف من خلاله ما تفكر فيه وما يحدث لك.. وسيروي لنا قصتك حتى تعود وترويها لنا تفصيلا". جلس قارئ الأفكار النحيل إلى مقعد مقابل لأشرف.. أشار المذيع إلى حارس الآلة أن يدير الزر، فبدأت في الهدير، وبدأ أشرف في التلاشي.. قال قارئ الأفكار: يشعر أشرف أنه تحت ضغط شديد جدا، يريد أن يتحرك لكنه لا يستطيع، يريد أن يفتح عينيه، فمه، يفشل.. يجاهد ليحرك شيئا أي شيء وبالنهاية ينجح في فتح عينيه فيرى لوحات ضبابية لأشياء تتحرك.. وبإمعان النظر يكتشف أنها أسماك تتحرك.. يكتشف أنه في عمق البحر، يسقط فمه رعبا فيمتلئ بالماء العذب، إذن هو نهر.. لا عدة غوص، لا أنبوب، أكسجين، لا شيء، لا أحد.. يسارع بتحريك يديه وساقيه بشكل هستيري فيجد أنه يصعد، يتابع الصعود حتى يجد سقفا من الماء المشدود، وحين اخترقه برأسه وطل إلى العالم البعيد ضج المكان بالصياح والتصفيق والتهاني.. يستطيع أن يميز من بين الحضور رجلا يرتدي المعطف الأبيض، كل الاهتمام يصب عنده، كل التهاني، المصافحات، المعانقات، تربيت الأيادي والأكتاف كلها عنده.. يبدو أن الحكاية تبدأ من هنا. يفكر أشرف أن يعوم إلى الشاطئ لكنه إذ يُنظر إلى جسده يكتشف أنه عارٍ تماما.. يمتد إليه خُطّاف يلتقطه من حيرته ويدخله إلى أنبوب عملاق مليء بالماء يفضي به إلى حوض زجاجي ضخم.. ينكمش أشرف في الركن، يدخل العالِم الأبيض وعلى وجهه بشائر السعادة، يُحدّث أشرف عن أشياء مثل النصر العلمي والمجد وخدمة البشرية ويخبره أن يستعد للمؤتمر العلمي، الذي سيعلن فيه نتائجه وستنقله كل تليفزيونات العالم. يفتح أشرف فمه ليتكلم، يعترض، يصرخ لكن لا يخرج منه سوى فقاعات. في المؤتمر يتحدث العالِم الأبيض: أظن أنني قدمت أروع كشف للبشرية: الإنسان البرمائي الذي يمكنه أن يعيش على الأرض وفي البحر في نفس الوقت.. لن تعود هناك أزمة إسكان، لا كثافة سكانية، لا تلوث، لا ثروات مُهدرة، أو أماكن مهجورة.. ستقضون عطلاتكم مع أولادكم تحت الماء.. وستزفون العرائس الجدد إلى الكهوف المدهشة تحت البحار.. من المعروف أن الإنسان لا يستطيع البقاء تحت الماء دون تنفس لمدة ثلاث دقائق كاملة، والحالة الوحيدة التي تعدت ثلاث دقائق سُجّلت في موسوعة جينيس كحادثة خارقة إذ تمكنت من البقاء تحت الماء لمدة سبع دقائق.. أما أنا، فصنعت الإنسان الذي يمكنه أن يبقى كيفما شاء.. القاعدة التي عملت عليها استوحيتها من التمساح، حيث يتنفس بالرئة كالإنسان، ونظام نقل الأكسجين من الرئة للأنسجة يماثل النظام البشري بالضبط، وبرغم هذا يستطيع التمساح البقاء تحت الماء ساعة، بينما لا يستطيع الإنسان أكثر من دقائق، وذلك لاختلاف كيفية تفاعل هيمجلوبين كل منهما مع ثاني أكسيد الكربون، فالتمساح أكثر اقتصادا وتوفيرا للأكسجين. هكذا حصلت على الجين المسئول عن هذه العملية لدى التمساح ومزجتها مع الهيمجلوبين البشري وأطلقت على هذا الهجين لفظة "سكوبا" وهي إشارة إلى أن هذا الكشف بديل مثالي لأنبوب الأكسجين الذي يحمله الغوّاص. من خلال حقن هذا الهجين في دم الإنسان يستطيع البقاء تحت الماء مدة مفتوحة. رفع بعض الصحفيين أيديهم، أشار الطبيب إلى أحدهم: - كيف حصلت على متطوعين؟ - أنا أعلنت مرارا عن طلب متطوعين لتجربة علمية رائدة لكن كلما صرّحت للمتطوع بالتفاصيل غادر ولم يعد. حتى تقدمت لي جهة ما بعرض إمدادي بالمتطوعين مقابل مبلغ مادي ضخم، وهكذا تعاقدت معها. - هل يستطيع هذا الإنسان أن يمارس حياته الطبيعية فوق الأرض؟ - نعم، بالتأكيد، وإن كان أحد أعضاء فريقي البحثي تمكن من تطوير مادة تجعل الإنسان يفقد صفاته الإنسانية ويكتسب كل صفات التمساح وليس التنفس فقط، بل ويفوقه أيضا في القدرة على البقاء تحت الماء وذلك بمجرد نزوله إلى النهر أو البحر بعد حقنه، وهو العمل غير الأخلاقي الذي أرفضه بشدة، ولذلك اعترضت على تطبيق هذه التجارب. - ولماذا إذن تحتفظ بالرجل في حوض مائي؟ - تغيير الوسط بين الماء والأرض يتسبب في تغيرات وقتية في جسم الإنسان، كما يفقد رواد الفضاء توازنهم في الفضاء وبمجرد العودة إلى الأرض، وهي فترة انتقالية، لذلك نحن نحتفظ بالحالة في حوض زجاجي لكنه مفتوح السقف وبإمكانه الخروج من الماء والتجول في الغرفة متى أراد. والآن.. أريد من الجميع الهدوء التام، ستشاهدون بأعينكم أكبر سبق علمي لهذا القرن.. ستختبرون بأنفسكم ولمدة نصف ساعة الإنسان التمساح! حك أشرف ظهره ليُسقِط هذه القشور لكنها لم تتحرك، نظر في الساعة المائية التي ألبسوه إياها.. اندفع في الأنبوب حتى حوافه، وقفز منه إلى النهر. بدأ العد التصاعدي للحضور، يتقدمهم صوت الطبيب كلما مرّت دقيقة: بسعادة: 1، 2، 3،.. ببشرى: 8، 9،10،.. بترقب: 19، 20، 21،.. بحشرجة: 30، 31، 32،.. بدأ الحضور يمور، يتحدث سرا، همسا، يصرخ: أين الرجل؟ وحين وصل العد: 50، أفلت أحدهم من مسامير مقعده، وأمسك بتلابيب الطبيب: ماذا فعلت بأخي؟ أيها السفاح أغرقت أخي.. والعالِم الأبيض يحاول التملص، يحاول أن يُفهِمه أن اختفاءه لا يعني بالضرورة موته، أو أن التجربة فشلت، بل قد يكون دليلا على نجاحها واستمتاعه بالحياة تحت الماء. صاح الأخ: كف عن الخزعبلات يا دكتور، أعد لي أخي. قال الطبيب إن أخاه بخير لأن المؤشرات تقول هذا، الآلات التي ترصد مكانه وعمقه وكمية الأكسجين ودرجة الحرارة كلها مطمئن.. صاحت الممرضة: المؤشرات يا دكتور! هرع الدكتور إلى الجهاز فوجد أن المؤشرات تعلو إلى أقصى حد.. أمسك قارئ الأفكار رأسه بعنف، وأغمض عينيه لحظة.. فتح عينيه وقال: انخفضت المؤشرات فجأة.. تعلو وتهبط.. أظن الجهاز على وشك الانفجار.. أغمض عينيه بقوة، صَمَت، همّ ليقول شيئا لكنه لم يقل. فقط يردد: غريب.. غريب! سأله المذيع: - ما هو الغريب؟ - غريب! غريب! - أين أشرف؟ ماذا حدث له؟ - فقدت اتصالي به، لا أعرف كيف حدث هذا، أنا أستطيع الاتصال بأي إنسان في أي مكان من العالم.. لا أعرف ماذا حدث لي.. قال المذيع: نعتذر للسادة المشاهدين عن هذا العطل الفني، ونأمل أن يستطيع أشرف اللحاق بنا قبل انتهاء فرصة تقديم القصص بنهاية الأسبوع القادم، أما بداية الأسبوع فهو موعدنا مع حلقة جديدة من برنامجكم المثير: فكرة البليون.
*** عاد قارئ الأفكار إلى بيته، التف حوله أبناؤه: - بابا، بابا، أين كنت؟ - كنت في المقهى. - لكن أخي يقول إنه رآك في التليفزيون. - أخوك يخدعك. سألته زوجته: - هل أنت بخير؟ - لا أعرف ما حدث لي اليوم، لكنه كان رهيبا. - هذا العمل يرهقك إلى أقصى حد، يجب أن تبحث عن عمل آخر. - نعم، صحيح، لكنك لا تعرفين كيف أستمتع به، يتيح لي فرصة لا تُعوّض لإشباع هواياتي. - تقصد موهبتك في قراءة الأفكار؟ - هذه إحداها.