يحمل هذا الكتاب للناقد د. الرشيد بوشعير باقة من بحوث له كانت ثمرة مشاركاته في ندوات ومؤتمرات عقدت في أزمنة مختلفة، بعضها كان في تونس، وبعضها كان في القاهرة، وبعضها الآخر كان في الجزائر أو في الإمارات العربية المتحدة، وهي تعالج قضايا أدبية ونقدية معاصرة تعكس جانباً من جوانب اهتماماتي الفكرية والنقدية والسردية والمسرحية خاصة. وقد علل اختياره ْللبحث الموسوم ب "ملامح ما بعد الحداثة في أعمال محمود المسعدي" عنواناً لهذه الباقة بإعجاب الشديد بلغة هذا الرجل المثقف الذي سبق عصره، ولما يحظ بالتقدير الذي يستحقه؛ وقال "نحن عندما نقرأ لبعض الكتاب المعاصرين، كتّاب الفيسبوك، ونوازن لغتهم بلغة المسعدي نصاب بإحباط شديد لما أصاب لغة "الفيسبوكيين" من هجنة مخجلة اصطلح على وسمها ب "اللغة الاجتماعية المتداولة"، خلافاً للغة المسعدي المعتقة التي طوعها جمالياً للتعبير عن أعقد الهواجس الفكرية والسيكولوجية المعاصرة، مع احتفاظها برونقها وعذوبتها المرهفة. النزوع الصوفي وقال حول "النزوع الصوفي في أدب محمود المسعدي" "يبدو أول وهلة أنه من المستبعد أن يجنح كاتب مبدع ومثقف عربي كبير عادة في خانة "الحداثة" أو "ما بعد الحداثة"، مثل محمود المسعدي، إلى معين التصوف الذي يجافي روح الحضارة المعاصرة وسمت المناهج العلمية السائدة راهنا، ولكن المتأمل في أعمال هذا الكاتب المتفرد الذي استطاع أن يجمع بين الأصالة والمعاصرة في أسلوب جزل رصين لا نظير له في كتابات المحدثين، يستطيع أن يرصد ملامح التصوف بسهولة ويسر في نصوصه الأدبية، وخاصة في "السد"، و"حدث أبو هريرة قال"، و"مولد النسيان"، و"من أيام عمران"، فضلا عن "التأملات" التي تندرج ضمن أدب الحكمة. وحاول بوشعير في بحثه القيم أن يقف عند النزوع الصوفي بأعمال المسعدي، راصدا ملامحه، من حيث الشكل ومن حيث المضمون، كما حاول أن يحدد أهم مرجعيات المسعدي الفكرية في التصوف، ومسوغات هذا النزوع. ليخلص إلى أن المسعدي أفاد من معين الفكر الصوفي بأعماله الأدبية شكلاً ومضمونا، لغةً ورؤى، ولكنه ظل محافظا على أصالته المتميزة، فجاءت طروحاته مختلفة في غاياتها عن طروحات الصوفيين وما انتهوا إليه من الركون إلى آفاق الرضا والاطمئنان والدعة والاستسلام؛ فإذا كان الصوفيون قد جنحوا إلى الإشراق والفناء في "واجب الوجود"، فإن المسعدي جنح إلى الحيرة والشك والبحث عن المعنى المفقود، وإذا كان الصوفيون قد دانوا بوحدة الوجود فاستكانوا، فإن المسعدي اتخذ من وحدة الوجود تعلةً للسعي الدؤوب إلى الخلق وتحدي الفناء. وفي قراءته لمنهج عبدالرحمن منيف في كتابة السيرة الذاتية.. سيرة مدينة أنموذجا" رأى بوشعير أن عبدالرحمن منيف يبدو مولعا بالتأريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي الشامل الذي عهدناه في أعماله الروائية، وخاصة في خماسية "مدن الملح"، و"سباق المسافات الطويلة" و"أرض السواد"، وهذا الولع بالتأريخ يطالعنا حتى في خطاب السيرة الذي يفترض فيه أن يعنى بالصوت الذاتي الفردي أكثر من عنايته بالفضاءات الموضوعية. وقال "لعل منيف هنا يرهن الرؤية الفردية الذاتية بالمجرى التاريخي العام وتحولاته التي تشكل سيكولوجية الفرد، وهو ما عبر عنه بأسلوب بليغ في "مدن الملح" التي ترصد أثر التحولات التاريخية الكبرى بالخليج العربي في سيكولوجية الأفراد والجماعات". وأضاف "إن عبدالرحمن منيف سبق له أن سرّب أمشاجًا من سيرته الذاتية إلى أعماله الروائية، وخاصة في "شرق المتوسط"، و"قصة حب مجوسية"، و"أم النذور" التي نشرت بعد وفاته، ولذلك فإنه يستنكف عن إعادة كتابة سيرته الذاتية بأسلوب مباشر يفضح علاقته الذاتية بسردياته التخييلية، ولعله رأى في لملمة أمشاج سيرته الذاتية المبثوثة في أعماله الروائية وإعادة صياغتها، عملا عقيما مكرورا يسيء إلى فنه أكثر مما يخدمه، وما يؤنسنا إلى ذلك أنه اكتفى في "سيرة مدينة" باستعراض حياته في مرحلة الطفولة ومرحلة المراهقة، دون أن يعرج على سنوات المنفى أو سنوات السجن في حياته، وقد يُرد على هذا الرأي بكون "منيف" في هذه السيرة محكومًا بفضاء مدينة بعينها، وهي مدينة "عمان" التي لم يسجن فيها، وهذا رد منطقي لا غبار عليه، ولكن لا ننسى أنه كان في إمكانه أن يكمل سيرته الذاتية في كتاب آخر. سيرة مدينة وخلص بوشعير إلى أن عبدالرحمن منيف في "سيرة مدينة" يرسم ذاته الهلامية في مرحلة طفولته ومراهقته على استحياء، وذلك من خلال استعادة ملامح تلك الذات عبر المكان وفضاءاته التاريخية والاجتماعية والثقافية، مستثمرا إمكانات الحيز الدلالية في خطاب السيرة الذاتية، وهو ما يعد إضافة جديدة تثري أساليب أو مناهج إنتاج خطاب السيرة الذاتية في الأدب العربي المعاصر، ولكن "منيف" يبالغ في تغييب صوته الفردي الذاتي وتمييع خطوط ملامحه الشخصية التي تنداح في زخم وطأة الحيز وفضاءاته التاريخية والاجتماعية، قابعة خلف أقنعة سميكة تضاف إلى القناع الأسلوبي الذي يتراءى في توظيف ضمير الغائب بدلاً من ضمير المتكلم، وهو ما يبدد حرارة الذات وحميميتها التي نلمسها في خطاب السيرة الذاتية المباشرة المعتادة. وفي بحثه حول "صدى المناهج الغربية في النقد المسرحي العربي.. النقد الملحمي أنموذجا" قال بوشعير إن المسرح العربي نشأ متأثرا بالمسرح الأوروبي بداية، وذلك عن طريق وسطاء من أمثال مارون النقاش، وسليم النقاش، وأبي خليل القباني، ونجيب الريحاني، من جيل الرواد، ثم جورج أبيض، وأحمد شوقي، وتوفيق الحكيم من الجيل الثاني الذي أصل هذا الفن في الثقافة العربية. وبما أن الشكل المسرحي الدرامي الأرسطي هو الشكل الذي كان سائدا في الثقافة الأوروبية حتى العقود الأولى من القرن العشرين، فإن نقاد المسرح في العالم العربي كانوا يصدرون في ممارساتهم النقدية وفي تنظيراتهم، عن النظرية الأرسطية بطبيعة الحال. وفي ظل انتشار الفكر الاشتراكي في كثير من الأقطار العربية، وخاصة في العراق ومصر وسوريا والجزائر واليمن إبان الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي أخذ الشكل المسرحي الملحمي ينافس الشكل الدرامي بشدة، وهو الشكل الذي اقتبسه المسرحيون العرب مبدعين ونقادا من المسرح البريختي تحديدا. وبعد انحسار المد الاشتراكي في العالم العربي تراجع المنهج الملحمي أو فقد توهجه على أقل تقدير، كي يفسخ المجال أمام المد الحداثي في الأدب والمسرح والنقد على حد سواء. ومن هنا راجت المناهج البنيوية والسيميائية والتفكيكية في دراسة المسرح، ولكن هذه المناهج ظلت منحصرة في أوساط نخبة من النقاد الأكاديميين الجامعيين القلائل الذين حاولوا أن يطبقوا تلك المناهج على بعض الأعمال المسرحية العربية. ويبدو أن هذه المناهج لم تحظ بالانتشار في أوساط المسرحيين لكونها تحوّل العمل النقدي إلى خطاب علمي جاف، خلافا للنقد الحداثي السردي أو الشعري؛ لأن المسرح ينشأ بالأساس بغرض العرض والتمثيل وليس بغرض القراءة، ولذلك بات الخطاب النقدي المسرحي الحداثي كالنوتة الموسيقية التي تفتقر إلى القدرة على الإمتاع عند قراءتها، ولا تؤثر في المتلقي إلا إذا ترجمت إلى أصوات موسيقية معزوفة. وما يقال في هذه المناهج النقدية المسرحية البنيوية والسيميائية والتفكيكية يقال كذلك في المنهج التفاعلي الذي يعد استجابة متطرفة لنظرية المتلقي والقارئ المبدع الذي يحل محل المؤلف. وأوضح إن التنقيب في التراث الشعبي العربي عن "الظواهر المسرحية" ومحاولة صياغة مفهوم نقدي وجمالي لمسرح ذي هوية عربية، على نحو ما نرى في "مسرح الحكواتي" لروجيه عساف، والطقوس الفولكلورية التي حاول الدكتور سلمان قطاية أن ينظر لها معتمدا على المقامات وشعائر "التعزية" في العراق، وحفلات الذكر والسماح والمولوية، فضلا عن خيال الظل والجرجوز، ومسرح البساط، وصندوق العجائب، ومحاولة عبدالقادر علولة شق طريق جديد للمسرح الجزائري بالاعتماد على طقوس "القوال" أو "المداح"، ومحاولة الدكتور عبدالكريم برشيد التنظير لجماليات المسرح الاحتفالي، ومحاولة توفيق الحكيم تجريب شكل "المسرح المركز" أو "المسرح الجوال"، كما يسميه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى يوسف إدريس الذي دعا إلى "مسرح السامر"، فكل تلك الجهود التي ترهص بشكل مسرحي ذي هوية مختلفة عن شكل المسرح الأوروبي، لا تخلو - بتقديرنا - من لمسات وأصداء المنهج الملحمي البريختي، سواء من حيث الرؤى أم من حيث المناهج والإجراءات النقدية. وخلص بوشعير إلى أن النقد المسرحي العربي كان رهين مناهج نقدية أوروبية طوال عقود من الزمن، وخاصة منهج النقد الملحمي، وبالرغم من الجهود المضنية التي ترهص بشكل مسرحي ذي هوية عربية متميزة، فإن هذه الجهود ما تزال تمتح من جماليات النقد الملحمي. يحمل هذا الكتاب للناقد د. الرشيد بوشعير باقة من بحوث له كانت ثمرة مشاركاته في ندوات ومؤتمرات عقدت في أزمنة مختلفة، بعضها كان في تونس، وبعضها كان في القاهرة، وبعضها الآخر كان في الجزائر أو في الإمارات العربية المتحدة، وهي تعالج قضايا أدبية ونقدية معاصرة تعكس جانباً من جوانب اهتماماتي الفكرية والنقدية والسردية والمسرحية خاصة. وقد علل اختياره ْللبحث الموسوم ب "ملامح ما بعد الحداثة في أعمال محمود المسعدي" عنواناً لهذه الباقة بإعجاب الشديد بلغة هذا الرجل المثقف الذي سبق عصره، ولما يحظ بالتقدير الذي يستحقه؛ وقال "نحن عندما نقرأ لبعض الكتاب المعاصرين، كتّاب الفيسبوك، ونوازن لغتهم بلغة المسعدي نصاب بإحباط شديد لما أصاب لغة "الفيسبوكيين" من هجنة مخجلة اصطلح على وسمها ب "اللغة الاجتماعية المتداولة"، خلافاً للغة المسعدي المعتقة التي طوعها جمالياً للتعبير عن أعقد الهواجس الفكرية والسيكولوجية المعاصرة، مع احتفاظها برونقها وعذوبتها المرهفة. النزوع الصوفي وقال حول "النزوع الصوفي في أدب محمود المسعدي" "يبدو أول وهلة أنه من المستبعد أن يجنح كاتب مبدع ومثقف عربي كبير عادة في خانة "الحداثة" أو "ما بعد الحداثة"، مثل محمود المسعدي، إلى معين التصوف الذي يجافي روح الحضارة المعاصرة وسمت المناهج العلمية السائدة راهنا، ولكن المتأمل في أعمال هذا الكاتب المتفرد الذي استطاع أن يجمع بين الأصالة والمعاصرة في أسلوب جزل رصين لا نظير له في كتابات المحدثين، يستطيع أن يرصد ملامح التصوف بسهولة ويسر في نصوصه الأدبية، وخاصة في "السد"، و"حدث أبو هريرة قال"، و"مولد النسيان"، و"من أيام عمران"، فضلا عن "التأملات" التي تندرج ضمن أدب الحكمة. وحاول بوشعير في بحثه القيم أن يقف عند النزوع الصوفي بأعمال المسعدي، راصدا ملامحه، من حيث الشكل ومن حيث المضمون، كما حاول أن يحدد أهم مرجعيات المسعدي الفكرية في التصوف، ومسوغات هذا النزوع. ليخلص إلى أن المسعدي أفاد من معين الفكر الصوفي بأعماله الأدبية شكلاً ومضمونا، لغةً ورؤى، ولكنه ظل محافظا على أصالته المتميزة، فجاءت طروحاته مختلفة في غاياتها عن طروحات الصوفيين وما انتهوا إليه من الركون إلى آفاق الرضا والاطمئنان والدعة والاستسلام؛ فإذا كان الصوفيون قد جنحوا إلى الإشراق والفناء في "واجب الوجود"، فإن المسعدي جنح إلى الحيرة والشك والبحث عن المعنى المفقود، وإذا كان الصوفيون قد دانوا بوحدة الوجود فاستكانوا، فإن المسعدي اتخذ من وحدة الوجود تعلةً للسعي الدؤوب إلى الخلق وتحدي الفناء. وفي قراءته لمنهج عبدالرحمن منيف في كتابة السيرة الذاتية.. سيرة مدينة أنموذجا" رأى بوشعير أن عبدالرحمن منيف يبدو مولعا بالتأريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي الشامل الذي عهدناه في أعماله الروائية، وخاصة في خماسية "مدن الملح"، و"سباق المسافات الطويلة" و"أرض السواد"، وهذا الولع بالتأريخ يطالعنا حتى في خطاب السيرة الذي يفترض فيه أن يعنى بالصوت الذاتي الفردي أكثر من عنايته بالفضاءات الموضوعية. وقال "لعل منيف هنا يرهن الرؤية الفردية الذاتية بالمجرى التاريخي العام وتحولاته التي تشكل سيكولوجية الفرد، وهو ما عبر عنه بأسلوب بليغ في "مدن الملح" التي ترصد أثر التحولات التاريخية الكبرى بالخليج العربي في سيكولوجية الأفراد والجماعات". وأضاف "إن عبدالرحمن منيف سبق له أن سرّب أمشاجًا من سيرته الذاتية إلى أعماله الروائية، وخاصة في "شرق المتوسط"، و"قصة حب مجوسية"، و"أم النذور" التي نشرت بعد وفاته، ولذلك فإنه يستنكف عن إعادة كتابة سيرته الذاتية بأسلوب مباشر يفضح علاقته الذاتية بسردياته التخييلية، ولعله رأى في لملمة أمشاج سيرته الذاتية المبثوثة في أعماله الروائية وإعادة صياغتها، عملا عقيما مكرورا يسيء إلى فنه أكثر مما يخدمه، وما يؤنسنا إلى ذلك أنه اكتفى في "سيرة مدينة" باستعراض حياته في مرحلة الطفولة ومرحلة المراهقة، دون أن يعرج على سنوات المنفى أو سنوات السجن في حياته، وقد يُرد على هذا الرأي بكون "منيف" في هذه السيرة محكومًا بفضاء مدينة بعينها، وهي مدينة "عمان" التي لم يسجن فيها، وهذا رد منطقي لا غبار عليه، ولكن لا ننسى أنه كان في إمكانه أن يكمل سيرته الذاتية في كتاب آخر. سيرة مدينة وخلص بوشعير إلى أن عبدالرحمن منيف في "سيرة مدينة" يرسم ذاته الهلامية في مرحلة طفولته ومراهقته على استحياء، وذلك من خلال استعادة ملامح تلك الذات عبر المكان وفضاءاته التاريخية والاجتماعية والثقافية، مستثمرا إمكانات الحيز الدلالية في خطاب السيرة الذاتية، وهو ما يعد إضافة جديدة تثري أساليب أو مناهج إنتاج خطاب السيرة الذاتية في الأدب العربي المعاصر، ولكن "منيف" يبالغ في تغييب صوته الفردي الذاتي وتمييع خطوط ملامحه الشخصية التي تنداح في زخم وطأة الحيز وفضاءاته التاريخية والاجتماعية، قابعة خلف أقنعة سميكة تضاف إلى القناع الأسلوبي الذي يتراءى في توظيف ضمير الغائب بدلاً من ضمير المتكلم، وهو ما يبدد حرارة الذات وحميميتها التي نلمسها في خطاب السيرة الذاتية المباشرة المعتادة. وفي بحثه حول "صدى المناهج الغربية في النقد المسرحي العربي.. النقد الملحمي أنموذجا" قال بوشعير إن المسرح العربي نشأ متأثرا بالمسرح الأوروبي بداية، وذلك عن طريق وسطاء من أمثال مارون النقاش، وسليم النقاش، وأبي خليل القباني، ونجيب الريحاني، من جيل الرواد، ثم جورج أبيض، وأحمد شوقي، وتوفيق الحكيم من الجيل الثاني الذي أصل هذا الفن في الثقافة العربية. وبما أن الشكل المسرحي الدرامي الأرسطي هو الشكل الذي كان سائدا في الثقافة الأوروبية حتى العقود الأولى من القرن العشرين، فإن نقاد المسرح في العالم العربي كانوا يصدرون في ممارساتهم النقدية وفي تنظيراتهم، عن النظرية الأرسطية بطبيعة الحال. وفي ظل انتشار الفكر الاشتراكي في كثير من الأقطار العربية، وخاصة في العراق ومصر وسوريا والجزائر واليمن إبان الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي أخذ الشكل المسرحي الملحمي ينافس الشكل الدرامي بشدة، وهو الشكل الذي اقتبسه المسرحيون العرب مبدعين ونقادا من المسرح البريختي تحديدا. وبعد انحسار المد الاشتراكي في العالم العربي تراجع المنهج الملحمي أو فقد توهجه على أقل تقدير، كي يفسخ المجال أمام المد الحداثي في الأدب والمسرح والنقد على حد سواء. ومن هنا راجت المناهج البنيوية والسيميائية والتفكيكية في دراسة المسرح، ولكن هذه المناهج ظلت منحصرة في أوساط نخبة من النقاد الأكاديميين الجامعيين القلائل الذين حاولوا أن يطبقوا تلك المناهج على بعض الأعمال المسرحية العربية. ويبدو أن هذه المناهج لم تحظ بالانتشار في أوساط المسرحيين لكونها تحوّل العمل النقدي إلى خطاب علمي جاف، خلافا للنقد الحداثي السردي أو الشعري؛ لأن المسرح ينشأ بالأساس بغرض العرض والتمثيل وليس بغرض القراءة، ولذلك بات الخطاب النقدي المسرحي الحداثي كالنوتة الموسيقية التي تفتقر إلى القدرة على الإمتاع عند قراءتها، ولا تؤثر في المتلقي إلا إذا ترجمت إلى أصوات موسيقية معزوفة. وما يقال في هذه المناهج النقدية المسرحية البنيوية والسيميائية والتفكيكية يقال كذلك في المنهج التفاعلي الذي يعد استجابة متطرفة لنظرية المتلقي والقارئ المبدع الذي يحل محل المؤلف. وأوضح إن التنقيب في التراث الشعبي العربي عن "الظواهر المسرحية" ومحاولة صياغة مفهوم نقدي وجمالي لمسرح ذي هوية عربية، على نحو ما نرى في "مسرح الحكواتي" لروجيه عساف، والطقوس الفولكلورية التي حاول الدكتور سلمان قطاية أن ينظر لها معتمدا على المقامات وشعائر "التعزية" في العراق، وحفلات الذكر والسماح والمولوية، فضلا عن خيال الظل والجرجوز، ومسرح البساط، وصندوق العجائب، ومحاولة عبدالقادر علولة شق طريق جديد للمسرح الجزائري بالاعتماد على طقوس "القوال" أو "المداح"، ومحاولة الدكتور عبدالكريم برشيد التنظير لجماليات المسرح الاحتفالي، ومحاولة توفيق الحكيم تجريب شكل "المسرح المركز" أو "المسرح الجوال"، كما يسميه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى يوسف إدريس الذي دعا إلى "مسرح السامر"، فكل تلك الجهود التي ترهص بشكل مسرحي ذي هوية مختلفة عن شكل المسرح الأوروبي، لا تخلو - بتقديرنا - من لمسات وأصداء المنهج الملحمي البريختي، سواء من حيث الرؤى أم من حيث المناهج والإجراءات النقدية. وخلص بوشعير إلى أن النقد المسرحي العربي كان رهين مناهج نقدية أوروبية طوال عقود من الزمن، وخاصة منهج النقد الملحمي، وبالرغم من الجهود المضنية التي ترهص بشكل مسرحي ذي هوية عربية متميزة، فإن هذه الجهود ما تزال تمتح من جماليات النقد الملحمي.