يواصل وائل وجدي في مجموعته القصصية الجديدة "عروس البحر" العزف على أوتار النفس الإنسانية وحميميتها المرتبطة، بدقائق الحياة الخاصة والعامة على حد سواء، وذلك بما يملكه من حس قصصي قادر على النفاذ في تلك العلاقات بلغة سهلة يسيرة تبتعد عن التعقيد والتقعر، وربما كان مما يميز هذا التدافع الحميمي لنصوص وائل وجدي بصورة لصيقة هو انشطار نصوصه بين ضميري المخاطب والمتكلم، وإن مال أكثر إلى استخدام ضمير المخاطب، ذاك الضمير المواجه الصادم الكاشف لتداعيات النفس واشتعالها مع ما حولها في ذات الآن، فهو يقتحم مجموعته، بهذا العنوان الكاشف للنص الافتتاحي: "لماذا ترتضين الحياة الزائفة؟"، بهذا السؤال الاستنكاري الذي يدعو إلى المكاشفة والتمرد، والذي يتبعه بعتبة النص هذا السيل من الأسئلة التي تؤطر لحالة من الارتباك والقلق الوجودي للنفس البشرية التي تبحث عن سبل لمصيرها: "زخم من الأسئلة، يقتحم رأسك، يكبلك في أخذ قرار.. أتستمسك بالفرصة التي سنحت لك أم تكمل طريقك كما تحب، رغم المغريات.. صهد ينتشر في جسدك كله، جلدك ينضح بعرق لزج، أنفاسك تتثاقل، أطرافك تسري بها برودة غريبة". بذلك المفتتح تبدو العلاقة بين ما يؤرق الذات من الداخل، وما يعتريها من إرهاق وتعب من مظاهر خارجية دالة على هذا التأثر، وهو ما أتت به المفردات الدالة على ذلك من صهد وعرق وبرودة غريبة في صورة متكاملة تنقل مدى المعاناة وتبرز التوتر النفسي لتلك الشخصية، ذلك الذي قد يميز كتابة القصة القصيرة، والقصيرة جدا لدى وائل وجدي من خلال نماذجها الواقعة في أسر الحالة التي تعمق من وجودها الفاعل في محاولات تقع بين سبر الغور والمزيد من طرح تساؤلات هذا الوجود، مطعمة باللغة الدالة والموحية والمجسدة في كثير من أحوالها لتضرب في أعماق نص لا يجرد القصة القصيرة من سرديتها، ولا يغرق في شاعريتها، فتتزن المعادلة.. فثمة تضافر وتجاور وتكامل بين نوعي القص (القصير والقصير جدا) لإنتاج حالة قصصية تملك القدرة على ذاك التجسيد. في نص "تحليق" تبدو العلاقة بيت المخاطب ومحاولات الانفلات من أسر حالة، يعكسها النص من خلال ضدها، وهو التحليق، أي الاستعداد للانطلاق والتفلت، وهو ما تعبر عنه الحالة النفسية المصاحبة بظواهرها: "أمواج البحر تعلو، يتأرجح قاربك الصغير، تجدف بقوة لكن الأمواج تزداد، ساعداك لا يقويان على التجديف، الماء يغمر قاربك، تغوص في قاع البحر والظلام سادر". تبدو هنا الحالة الحلمية لتلقي بظلالها على الحالة النفسية المصاحبة التي تستدعي ردة فعل تعيد للشخصية اتزانها، فمن عمق الأزمة النفسية يلوح الحل من خلال الشرفة التي تمثل انفتاحا على العالم الخارجي، وتشرف على الفضاء المفتوح الذي يحيل الكابوس إلى أمل في معانقة الحياة ومعاودة التحليق: "تنتبه على صوت الأمطار، تخربش أصيص الصبار، لصق جدار الشرفة.. تقف تفتح ضلفة الشيش". فما بين أمواج البحر وهطول المطر تقع تداعيات الحالة التي يكشف عنها النص من خلال الإحالة الضمنية التي تؤسس لما تعانيه النفس وتنشغل به، وذلك هو الأثر الذي تحدثه فيها من خلال عوامل التأثير، وما ترمز إليه تلك العلامات الأخرى التي يتضمنها المشهد كأصيص الصبار الذي يشكل دلالة على مدى الجفاف النفسي الذي تعانى منه الشخصية، وما يحيط بها.. وكل ذلك من سمات القص القصير جدا الذي يتأرجح بين شاعريته كحالة عامة وسرديته على مستوى التفاصيل سواء كانت الواقعية أو المتخيلة التي ترسم ظلال الحالة. تلك السمة من الكتابة التي تجعل سلسلة النصوص التي يحتويها متن المجموعة على اتصال وثيق وفي حالة من التواشج والتكامل معا. فنرى في نص "حضن" هذا الحنين إلى الدفء، واللعب على ظلال الحالة النوستالجية التي يعيشها المخاطب هنا، أيضا، في خطوطه المتقاطعة مع الحياة وظلال الفقد فيها: "كل شيء في مكانه الذي ألفته، منذ وعيك إلى الدنيا.. إذن ما هذا الصوت الذي تسمع صداه في أرجاء الشقة الباردة الحوائط رغم قيظ الصيف مع قينك أنها أسبلت عينيها، وهي تضع رأسها على ذراعك.. أهو حنينك إلى حضن أمك التي فقدتها". حيث يأتي الاستدعاء هنا للصوت وللحالة الندية التي تحملها ذكرى الأم والتي تعبر عن اجتياح الشعور بالخواء الذي ربما مس أعطاف الشخصية في النص السابق، وهو ما يجعل من النصوص سلسلة تكاد تكون حلقاتها متوالية، إضافة إلى تيمة التعانق مع المكان والاعتياد عليه، ومحاولات تحويل هذا الخواء إلى ألفة لما يحمله المكان وعلائقه من ذكريات حميمة تستعيض بها الشخصية عن الفقد المادي باستيهام حالة التوحد مع المكان ذاته وظلال الذكريات فيه معا، وهو ما يستمر به النص نحو إكمال الحالة أو إغلاق دائرة وجودها ومحاولة حبس الذات فيها: "الخروج من شقتك أمسى عسيرا على روحك.. تعيش كل لحظة باقية لك في الحياة، وأنت تهفو إلى حضن أمك لتتدثر به من صقيع أيامك". فالمكان هنا يبرز على خلفية الحالة، ولكنه ظهير لها ومؤسس، وهو ما يجسد الحالة إلى حد بعيد، كما أشرنا آنفا، ويجعل من وحدة النص متكاملة فيما بين التقاطع بين المكان والزمان، والحالة النفسية التي تعاني منها الشخصية التي تتجرد هنا للبوح ومحاولة الانطلاق إلى واقع أفضل أو أكثر اقترابا من أمان النفس. ذلك الذي قد يؤدي إلى ضرورة أخرى من ضرورات التعامل مع النص القصير جدا الذي يحتفي به الكاتب، ويحتفي هو ذاته بتلك اللحظات المقتنصة من عمق الحالة الإنسانية في صورتها المتناهية، والمعبرة عن التشتت والتشظي الذي ربما عانى منه العالم بأسره، برغم تقدمه اللافت، وحصره في بؤرة صغيرة قد تجمع كل أطيافه فيه. شذرات الحنين الكاتب هنا يعمل على تفتت الصور وتشظيها، وتشذرها وتقديمها لتكون نصوصا وامضة بالغة الرهافة وعميقة في ذات الوقت، ربما تتفرق ثم تعود لتتجمع، لتصنع حالة نوستالجية تتكيء على مفردات الحنين، وتتغور في إحداث حالة نصية لا تعوزها سمة السردية برغم تشظيها وتفتتها وقصرها الشديد واختزالها، حيث يأتي استخدام الفعل المضارع في الغالب ليمثل حركة آنية/ مشاهدة، يؤكد بها القاص هنا على ذات الروح السارية في تضاعيف الحالة النصية، التي تتجه إلى حد بعيد نحو الظواهر الخارجية التي تشارك الوعي المستبطن للحالة، في صناعة المشهد المتشظي أو المتشذر، الذي يمثل بعضا من كل، والذي يستدعي مشاهد الطفولة بمراحلها لتمثل سلسلة أخرى من التداعيات التي تجسدها النصوص كمشهد أو شريط سينمائي تتحرك فيه كاميرا القاص لتعلق اللحظات على مشجب الزمن، وتعرضها ليبدو في نص "بيت" ذلك المد من الحنين إلى مكان النشأة والمرح الطفولي، والذي يؤنسنه القاص ليؤكد على علاقته الحميمة به من جهة، ومن جهة أخرى ليلقي بظلال الاغتراب على هذا المشهد العام/ الإطار الخارجي الأكبر/ البيئة المعاشة، الذي تعوزه دائما رائحة وطعم الذكريات، برغم الرحيل عن المكان: "نرحل عنك في يوم أمشيري مطير.. حينما توحشني أمر بشارعك، لا أجد سوى شجرتي العجوز وجدران أسمنتية كالحة..". كما ترتبط الذكريات بالفقد في حالة ذكرى الجد المنقوشة في الذاكرة التي تحمل الكثير، وتنضح به ليكون التعبير عن الحالة من خلال الملامح التي يجسدها القاص للرحيل أيضا، وإن كان هنا رحيلا مغايرا للسابق، حيث يتجه إلى الخروج من الدنيا بأسرها، ليكسبه هذه السمة الفعلية أو التجسيدية التي يتراءى من خلالها أثره، ونقشه في الذاكرة الطفولية الصلبة العصية على النسيان كنوع من المقاومة ضد الزمن الذي يمر بسرعة فائقة، وهو تجسيد فلسفي أيضا ينبع من رؤية للحياة، أو مراقبتها الحثيثة وتتبع دقائقها، كما يقول في نص "رحيل"، أيضا بضمير المخاطب الأثير: "تناوشك ذاكرتك كل حين بملامح يوم رحيل جدك، رغم صغر عمرك، لتقفز إلى حياتك الأبدية". من خلال هذه الشذرة الكاملة المجسدة للحالة النفسية المصاحبة للعقل وما يختزن فيه، تقترن الذكرى بمدى العمر لتعبر الزمن برائحة المكان وتفاصيله التي تفرض نفسها من خلال التداعي الذي يظل مصاحبا للذات المجبولة على العودة دائما بالحنين إلى ماضيها الذي يمثل ركنا أساسيا، بل ومهربا من قسوة واقع يفرض تداعياته وجفاءه وقسوته على مشهد متكرر في صيغ متعددة، قد يواجهها كل منا في محيط بيئته المكانية والاجتماعية، وكذا المحيط النفسي الذي يجعل من التمسك بالجذور أمرا بالغ الأهمية وركنا ركينا من أركان الحياة التي يواجهها السارد بنظرته الفلسفية العميقة المستمدة من أجواء نفسية رافضة لهذا الواقع المحيط الذي لا يتسق مع جماليات تذوقه للحياة. فنجد هذا التمسك بالجذر/ الأب الذي ربما انتقل من ثنايا العمل الروائي للكاتب "سبعة أيام فقط" ليتناثر ذاك الأثر بروح الحميمية والارتباط، كما في شذرة "رحيل" التي يستنسخ فيها السارد سمات من والده، تمتد فيه، وتعمل على التماهي بين الشخصيتين أو ربما حالة التلبس التي تشيع في النص روح الشجن والحميمية الزائدة، الرافضة لما يدور في الإطار الخارجي للباقين على قيد الحياة، وارتباطا لصيقا بهذا الأب/ المصدر، الذي يستحضره دوما من خلال علاقات مادية ومعنوية على حد السواء: "لا تعرف لماذا يحدوك الشعور كلما رنوت إلى أصابعك، إنها مستنسخة من أصابع أبيك، الذي رحل منذ ثلاث سنوات". ليتلاقى هذا النص مع نص "حضن" الذي عرضنا له، وتستحضر فيه الشخصية / الذات، الأم، لتكتمل عملية الاستحضار من خلال تتبع هذه المشاعر الحميمية وآثارها وظلالها التي تلقى على كل الأشياء والمدلولات من حولها، ولتكتمل أيضا أركان عملية الفقد التي احتوت الشخوص الثلاث الأثيرة لدى الذات، أو مثلث الأب/ الجد/ الأم، مع اختلاف توقيتات ظهور كل منها أو دوره من خلال تتابع النصوص التي تلعب على ما تأتي به ظلال تلك العلاقات من حميمية وإثبات للمشاعر الجياشة التي لا تغيرها تحولات الزمن، والتي تجابهها تلك الرغبة في كسر الحاجز النفسي بين الآني/ الحاضر، والماضي/ المتجسد دائما، مع سديمية الرؤية للمستقبل التي تلوح كدلالة ضمنية من الدلالات التي يمكن أن تطرحها هذه السمة من سمات الكتابة، حيث تعكس القلق والتوتر الذي قد ينتاب تلك الشخصية التي لا تحاول استشراف مستقبلها بقدر ما تمد النظر وتتغور فيه في اتجاه الماضي، أو الحس النوستالجي المقيم في الذات.