يأتي يناير وتأتي معه كل نسائم الربيع الثوري الذي مر على بلادي المحروسة مؤقتاً لأنها بالفعل لم تعد محروسة منذ شهور تعصف بالبلاد والعباد ، وكلما يقترب الشهر من الانتهاء تتصاعد الذكريات والحكايات الجميلة التي ارتبطت بتفاصيل الثورة المصرية العظيمة في وقتها ، ولكن هذه الذكريات أصبحت للأسف لا تجد صداها لدى المصريين وهم بالفعل أصبحوا ممن يعانون من مرض فقدان الذاكرة التدريجي أو ما اتفق على تسميته حالياً بذاكرة السمكة. وكنت أفضل أن أتحدث عن ذكريات ومشاهد الثورة التي عايشناها ونحن نفتخر بأننا نقدم للعالم أفضل مثل يحتذى للتظاهر السلمي العفيف والشريف المتسلح بقوة الإرادة واليقين بالنجاح وأخيراً بالشعارات والنداءات الثورية الصادقة.لكن مصر اليوم بالتحديد وهي تحتفل بانتصار الثورة على النظام بعد إسقاطه بالضربات المتلاحقة طيلة ثمانية عشر يوماً أصبحت تحت رحمة الفوضى . حقاً لقد اجتاحت الفوضى البلاد والعباد على السواء ، وصار اليوم الذي يمر علينا بلا فوضى هو يوم مكرور واعتيادي ، والفوضى بحق أصبحت جزءاً من سياسات الحكومة مروراً بسلوكيات المصريين الذين طلقوا النظام والأمن بغير رجعة. وكيف تحفل البلاد بذكرى الثورة والفوضى والانفلات المتنوع الصور والأشكار سيطر على كل مناشط الحياة فيها في القرار والإدارة والعمل والشارع والمدرسة التي لا يعلم عنها السيد وزير التعليم الذي يتربص بمعلميه وهم يتربصون بالطلاب وهؤلاء لا حول لهم ولا قوة في ظل نظام تعليمي متخلف ومتأخر عن العصور الوسطى في أوروبا. كنت أتمنى أن أستحضر بعضاً من مشاهد الثورة الجميلة التي شكلت وجداننا وتاريخنا المعاصر بل سأبالغ حينما أقول إنها أعطت لحياتنا قيمة ومكانة وهوية بعدما ضاعت لعقود بعيدة ، ولكن ما تمر به مصر الآن هو توحش قديم متغلغل في الثقافة المصرية ، فالفساد لا يزال متربعاً على عرشه القديم ، سواء على مستوى الفساد الإداري أو المالي أو القيمي وأخيراً فساد النفوس . وكل ما نستطيع فعله هو اجتثاث أغصان الفساد لكن الحقيقة أننا بعيدون تماماً عن جذوره. وكنت برغبة أن أنتشي وأنا أتحدث عن ثورة أتت بثمارها على المستوى الاقتصادي ، لكن للأسف مصر بدأت تنهار اقتصادياً ولا مجال لتصديق التصريحات والدعاءات حول موقف مصر الاقتصادي المنتعش ، لعلهم يقصود بالمنتعش حالة الاقتصاد المصري في غرفة الإنعاش بالمستشفى المتهالكة الأركان والمحاصرة من البلطجية والمنتهية صلاحيتها في الإمداد والعتاد. والذين ظنوا للحظة أن هناك مشروعاً يسمى النهضة بغير ارتباطه بجماعة الإخوان المسلمين لم يعوا جيداً أن الوطن في حالة ركوع مستمرة لذا فهي تحتاج إلى محركات رفع خرافية للنهوض بها من البئر السحيقة التي تركنا فيها نظام مبارك ثم جاءت السياسات الحكومية الوزارية بعد ذلك لتضعنا في عداد المتوفيين إكلينيكياً. وكم بمصر من المضحكات منها كل الممارسات السياسية الراهنة ، من مجلس شورى يتراشق فيها الأعضاء بالألفاظ والكلمات النابية والدلالة أنه مظهر من مظاهر الديموقراطية ، وكم من العجب أن نهرول نحو الاستفتاء على دستور للوطن نتعايش فيه من خلال مواده ونحن شعب يصر على اختراق القانون والعراف ويحتال على القيم والمبادئ السامية. ويكفيك أن تجلس مع نفسك منفرداً بغير صديق أو شريك يؤانس صمتك المطبق وتقرأ ما تكتبه الصحف الأجنبية الأكثر صدقاً عن مصر وما آلت إليه الأمور بها حتى تقترب من مشارف الاكتئاب والإحباط الذي قد يصاحبه قلق وجودي يدفع إلى الانتحار الجماعي وليس الفردي ، لأن هناك آخرين يشاركونك هم الوطن والمواطنة ويحملون على عاتقهم مثلك عبء الثورة التي تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة.. قامت الثورة لنلجأ للاقتراض من كل عابر سبيل وكل طامع طامح في اقتناص أي جزء من الكعكة غير الحجرية ، وقامت لنكتشف معجماً جديداً للغة تتضمن كلمات مثل الفلول والأخونة والانفلات ، والتكويش والمغالبة والدستور والنائب العام والمحكمة الدستورية ومحمد محمود والأولتراس وبورسعيد ومجلس الوزراء والقطار والجماعة والمرشد والجبهة والإنقاذ والاتحادية والمليونيات والحصار والاعتصام والتطهير، والحقيقة أن معظم مفردات المعجم تصلح لتسميته بمعجم غرق مصر. والمدهش ونحن نتهيأ معاً للاحتفال بثورتنا الغالية أننا نتحدث عن ثمة مؤامرات تحاك بليل ضد هذه الثورة والثوار، من الولاياتالمتحدة وإسرائيل وبعض البلدان المجاورة والصدق أننا أنفسنا أصحاب المؤامرة على جسد وعقل الوطن وثورته ، ومن الكذب والضحك والسخرية أن نظن غافلين بأن المخرج من مأزقنا الراهن هو التحالف والتكاتف وإقامة حوار متوازن بين القوى السياسية وأطيافها المجتمعية لأننا باختصار أصبحناً جسداً أصم بملامح مشوهة. ولكن رغم هذه الحلكة والسواد الذي يكسو ملامحنا إلا أنني أحمل بقلبي يقيناً بأن الله يرانا ويرى ما تخفيه الصدور المطمئنة والمخلصة التي تحب الخير لمصر ولأهلها وأن بمصر سواعد كثيرة تبني وتنهض بالبلاد بغير مشروعات ورقية ، ولأولئك الذين يتمنون الشر لمصر وشعبها أقول ستنهض البلاد وستحترقون يوماً ، وستنتصر الثورة مهما طالت أيامها ولياليها الباردة والحارة ، هذا الوطن ملئ بالشرفاء فلهم التحية والاحترام.. كل سنة وأنت طيبة يا ثورة.