وزير الصحة يبحث دعم خدمات الصحة الإنجابية مع إحدى الشركات الرائدة عالميًا    الأونروا: عام واحد من الحرب أعاد قطاع غزة 70 عاما للوراء    برشلونة يثأر من بايرن ميونخ برباعية في دوري أبطال أوروبا    حادث تصادم يتسبب في مصرع شخصين وإصابة 8 آخرين بأكتوبر    اليوم الثالث لمؤتمر الصحة والسكان والتنمية البشرية يناقش ملفات الدواء وتنظيم الأسرة والرقمنة.. وزارة الصحة: نستهدف تحسين جودة حياة السكان لتعزيز التنمية الشاملة وتحقيق الاستقرار الاجتماعي    أسعار الذهب المحلية تواصل تراجعها بالتعاملات المسائية    وزير العمل مُحذرًا من الكيانات الوهمية: ليس لدينا شركات وسيطة    المستشار محمود فوزي يستقبل وفد حزب الجيل الديمقراطي ويؤكد أبوابنا مفتوحة    وزير الدفاع الأمريكى: استهداف إسرائيل للمدنيين فى غزة سيخلق جيلا رافضا للتعاون مع تل أبيب    برشلونة يسجل الرابع ضد بايرن ميونخ ورافينيا يوقع على الهاتريك.. فيديو    الأوقاف تنظم قافلة كبرى لمدينة الأمل عن «الإدمان وخطورته»    تامر أمين يعلق على أزمة ثلاثي الزمالك    ولاد العم.. الطفلان يوسف وفارس يبيعان الربابة بالشوارع من المنصورة إلى دسوق (صور)    شمال سيناء: إغلاق ميناء العريش البحري بسبب التقلبات الجوية واستعدادات مكثفة لموسم الأمطار    رمضان 2025| روبي و نيللي كريم تتعاقدان على «ناقص ضلع»    محمود الليثي يهنئ أبطال فيلم «المخفي» بالعرض الخاص    عقب انتهاء برغم القانون.. إيمان العاصي توجه رسالة لفريق العمل ماذا قالت ؟    الأهلي أم الزمالك.. من يحسم لقب السوبر المصري؟ خبيرة فلك تجيب    أستاذ قانون: مصر مستقلة الإرادة وتتبع مصالحها وتقود حملة تصب فى مصلحة الدول النامية    حمدي بخيت: مصر قطعت الذراع الطولى لإسرائيل خلال حرب أكتوبر بمنتهى العبقرية    ضبط عامل شرع في قتل صديقه بسبب خلافات بينهما بالعجوزة    البيت الأبيض: كوريا الشمالية أرسلت 3 آلاف جندي إلى روسيا للقتال ضد أوكرانيا    «لارز للتطوير العمراني» تُطلق مركز أعمال بالعاصمة الإدارية الجديدة    المصريين الأحرار: يجب على كل حزب توضيح الأيديولوجيا الخاصة به    أمين الفتوى: هذه من أفضل الصدقات الجارية عن الميت    الأزهر الشريف يعقد ندوة تحت عنوان «أمانة الفتوى وأثرها في الاستقرار المجتمعي»    إعلام عبرى يكشف تفاضيل زيارة بلينكن لتل أبيب    المرشد الإيراني يعلن فشل إسرائيل في غزة رغم قتل 50 ألف برئ    مهرجان القاهرة السينمائي ينظم ورشة للتمثيل مع مروة جبريل    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تركيب الإنترلوك بسيدي سالم    لتغيبه عن العمل.. محافظ البحيرة تقرر إقالة مدير الوحدة الصحية بقرية ديبونو    مصرع مسن في حادث سير بطريق مطار الغردقة    تحرير 1372 مخالفة للممتنعين عن تركيب الملصق الإلكتروني    الشكاوى الحكومية: نتلقى 13 ألف مكالمة يوميًا    ضمن مبادرة بداية.. مياه الغربية تواصل تقديم الأنشطة الخدمية    الغنيمى يدعم سلة سموحة قبل بدء الدورى الممتاز    كوكو حارس سيراميكا: مباراة بيراميدز ليست سهلة وسنلعب للفوز ببرونزية السوبر    عامر حسين: نفكر في إقامة كأس مصر بنظام الذهاب والعودة    «رافضين يلعبوا».. الغندور يكشف رد فعل جوميز واللاعبين بعد حبس ثلاثي الزمالك (فيديو)    هاني عادل ضيف «واحد من الناس» على قناة «الحياة»    الضرائب تكشف تفاصيل حزم التيسيرات الجديدة    شركتا طيران تركيتان تعلقان رحلاتهما إلى إيران حتى الأول من نوفمبر    «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا».. موضوع خطبة الجمعة القادمة    هاريس وترامب .. صراع البيت الأبيض في الأيام السوداء    السجن عام مع إيقاف التنفيذ لسائق بتهمة التعدي على أرض آثار بقنا    محافظ المنيا: تقديم خدمات طبية ل 1168 مواطناً خلال قافلة بسمالوط    وزير الصحة يشهد جلسة حوارية حول التعاون لضمان حصول الجميع على الدواء بأسعار عادلة    لماذا العمل والعبادة طالما أن دخول الجنة برحمة الله؟.. هكذا رد أمين الفتوى    محطات في حياة صلاح السعدني.. صداقة العمر مع الزعيم وكبير مشجعي الأهلي    إعادة تأهيل 60 منزلا في قريتي الروضة 45 والوفاء والأمل بالإسكندرية    التعليم تعلن تفاصيل امتحان العلوم لشهر أكتوبر.. 11 سؤالًا في 50 دقيقة    المنيا: رئيس مركز سمالوط يشهد لقاء المشاركة المجتمعية بالقرى لمناقشة مشروعات الخطة الاستثمارية    الصحة العالمية: القصف المكثف تسبب فى تأجيل حملة تطعيم شلل الأطفال فى غزة    اليوم.. النادي المصري يلتقي شباب المحمدية بالمغرب    نشرة مرور "الفجر".. انتظام حركة المرور بشوارع القاهرة والجيزة    محافظ الغربية يكرم بسملة أبو النني الفائزة بذهبية بطولة العالم في الكاراتيه    ارتفاع أرباح بيكر هيوز للخدمات النفطية خلال الربع الثالث    بركات يوم الجمعة وكيفية استغلالها بالدعاء والعبادات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قيثارة الشعر السوداني
نشر في صوت البلد يوم 20 - 11 - 2020

الشاعر التيجاني يوسف بشير رحمه الله كان بلا شك أنموذجاً متفرداً في رقته وشاعريته، فديوانه الخالد «إشراقة» الذي اشتهر بضخامة المعاني، ومتانة المباني، اختلف النقاد حوله اختلافاً عظيماً، واتجهوا في دراسته اتجاهات شتى، ولعل الحفاوة التي لقي بها السودانيون التيجاني على مر الحقب تبرهن بجلاء أن الشاعر الذي طبقت شهرته الآفاق، لم ينبغ في الشعر السوداني مَن بلغ شأوه أو داناه، فقصائده الجياد التي لا يُسْهِر عليها جفناً، ولا يكُدّ فيها طبعاً، لا تجد قصيدة منها تخلو من أبيات تُختار، ومعاني تستفاد، وألفاظ تروق وتعذب.
ومما لا يندّ عن ذهن، أو يغيب عن خاطر أن شعر التيجاني الذي يجول فيه رونق الحسن، وتتدفق بين قوافيه سيول الطلاوة، يدل على سعة ثروته اللغوية، فمن يطالع أبياته الشامخات يوقن تماماً بأن شاعرنا المجيد قد استبطن دخائل الأدب العربي، واستجلى غوامضه، يقول قيثارة الشعر السوداني في مجلة الفجر في عددها السابع لعام 1934م معتزاً ومتباهياً بثقافته الأدبية: «مما نحمد عليه الله أن دراستنا للشعر العربي لم تكن من نوع الدراسات التي يتناولها بعضهم ناقصة من كتب العصر مبتورة من بين الكتاب، ثم يصدرون عنها وهم أشد قنوعاً، وأكثر ثقة في نفوسهم بما فقهوا من صور الأدب، واستظهروا من ألوانه، إنما كانت دراستنا له دراسة استقراء وتفهم يؤسسها انقطاعنا إلى قديمه، أجل مما نحمد عليه الله أن مهد لنا من دراسة الشعر العربي ما يؤهلنا للحكم عليه في ضوء الحديث، والبحث عمّا أثّر فيه من عوامل وعمل فيه من مؤثرات في كل ما مرّ به من أطوار».
ولم يكتفِ شاعرنا الخبير بقرض الشعر، البصير بمذاهب الكلام، بالاطلاع على أمهات الكتب الأدبية بل تعداها بحكم دراسته في المعهد العلمي لإدمان كتب المتصوفة والمؤلفات التي تعنى بالفرق والطوائف الدينية، ومن أشهر الكتب التي أقذى عينيه تحت أضواء المصابيح في مطالعتها كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني، و«الرسالة القشيرية» لابن القاسم عبدالكريم هوازن، و«الحكم» لابن عطا السكندري، ويرى الناقد محمد عبد القادر كرف أن هذه الكتب وغيرها أضفت على شعر التيجاني ذلك الغموض الذي تبدى في الكثير من قصائده خاصة في «قلب فيلسوف» و«الله» و«أنبياء الحقيقة» و«الصوفي المعذب».
ولعل الغموض الذي يعتري جُلّ قصائد التيجاني لا يمكن أن نعزوه لاستغراق شاعرنا في قراءة كتب الدين والفلسفة وحدها بل للظروف القاسية التي شابت حياة الشاعر من فقر مدقع، وفصل مقذع، وداء مفزع، ولطبيعته المتوثبة التي كانت ترنو بأن يكون لها شأن وقدم راسخة في الأدب، فطائفة من النقاد ترى أن التيجاني كان يهدف من قرض الشعر والتهويمات، وتدبيج الصحف بالمقالات المموسقات، إلي الظهور والحذلقة وإثبات تفوقه على أخدانه وأقرانه، فقد استشعر التيجاني كما يقول هنري رياض صاحب كتاب «التيجاني يوسف بشير شاعراً وناثراً» منافسة حادة بينه وبين زميله وابن عمه عبدالوهاب محمد القاضي من ناحية وبينه وبين شعراء كلية غردون من ناحية أخرى، مثل يوسف مصطفى التني، ومحمد أحمد المحجوب، ومحمد عثمان محجوب، وحسن طه، وذلك فضلاً على أن فصله من المعهد العلمي جعله يحس بضرورة تقديم دليل على تفوقه نتيجة جهده ودراسته الخاصة».
الشاعر الفذ، والناقد المتمكن، المرحوم محمد محمد علي استهجن في سفره القيم «محاولات في النقد» طلاسم الغموض الذي يراه لعنة على الأدب وأبان أن وظيفة الشاعر أو الفنان تنحصر «في شرح احساساته وأفكاره ووضعهما في صور متناسقة مشرقة، وأن يكون صاحب الفن صادق الشعور، يصور عن تجربة نفسية عميقة مكتملة، وأن يكون بعد ذلك بيناً واضح البيان»... الأستاذ الجليل محمد محمد علي عزا الغموض في شعر التيجاني إلى سببين رئيسين أولهما «أن أداته في الأداء لم تنضج فهي ما زالت في ريعان الحداثة الفنية. والثاني يمت بصلة إلى السبب الأول هو أن التيجاني كثيراً ما يهجم على موضوعات لم تعش في نفسه، ولم يكن لها صدى في حياته» .
وأحسب أن ما ذهب إليه المرحوم محمد محمد علي لم يحالفه الصواب من كل جانب، فالتيجاني الذي هصرته يد الردى، وطوته الغبراء، وهو في ملد الشباب قرّظ الآذان، وشنّف الأسماع، وأسكر الألباب، تماماً كما فعل طرفة بن العبد، فطراءة السن، وحداثة العمر، لا تحط من أفاضل الشعراء، وأكابر المُصنفين، وأعيان المُنشئين، فالفتى الذي يتحفنا بغرر القصائد المنقطعة القرين، لا ينبغي أن ندمغ أي قصور طاف ببعض أبياته بحكم الجبلة لرونق الحداثة، ونغفل عن هضابه الشاهقة التي استعصت على كل معتلٍ، لم يهجم قيثارة الشعر السوداني على موضوعات لم تعش في نفسه طويلاً، كما تفضل من يُعدُ من صاغة القريض، وكماة النقد في بلادي، لم يحدث ذلك، فديوان اشراقة برء من وصمة الصنعة والتكلف، ولم نستشف فيه بوادر الإسفاف والاعتساف.
الدكتور عبدالمجيد عابدين مؤلف كتاب «التيجاني شاعر الجمال» في سفره الجامع لشتيت الفوائد، ومنثور المسائل، أذاع رأياً قميناً بالذكر والاعتبار، فهو يرى أن التيجاني مولع بتجسيم المعاني، وتبادل المحسوسات، ولكن اسرافه فيهما، قد أدى به إلى غموض العبارة وتعقيدها، وكثيراً ما يلقي التيجاني بعبارات غامضة في خلال الأبيات إذ يترك فيها الضمائر مبهمة، لا يعرف القارئ إلامَ تعود على وجه التحقيق، ويترك الصورة غامضة دون توضيح.
الغموض في شعر التيجاني «يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتمحيص، وعلى الناقد الذي يريد أن يسبر أغوار هذا الغموض أن يتحلى بالصبر والأناة وقوة العارضة مع حدة البادرة والإلمام بشتى التفاصيل عن حياة الشاعر الذي استبد به الهم، وتكالبت عليه أكتاف الشدائد، حتى سكن نسيسُهُ، وعاجله سهم القضاء.
الشاعر التيجاني يوسف بشير رحمه الله كان بلا شك أنموذجاً متفرداً في رقته وشاعريته، فديوانه الخالد «إشراقة» الذي اشتهر بضخامة المعاني، ومتانة المباني، اختلف النقاد حوله اختلافاً عظيماً، واتجهوا في دراسته اتجاهات شتى، ولعل الحفاوة التي لقي بها السودانيون التيجاني على مر الحقب تبرهن بجلاء أن الشاعر الذي طبقت شهرته الآفاق، لم ينبغ في الشعر السوداني مَن بلغ شأوه أو داناه، فقصائده الجياد التي لا يُسْهِر عليها جفناً، ولا يكُدّ فيها طبعاً، لا تجد قصيدة منها تخلو من أبيات تُختار، ومعاني تستفاد، وألفاظ تروق وتعذب.
ومما لا يندّ عن ذهن، أو يغيب عن خاطر أن شعر التيجاني الذي يجول فيه رونق الحسن، وتتدفق بين قوافيه سيول الطلاوة، يدل على سعة ثروته اللغوية، فمن يطالع أبياته الشامخات يوقن تماماً بأن شاعرنا المجيد قد استبطن دخائل الأدب العربي، واستجلى غوامضه، يقول قيثارة الشعر السوداني في مجلة الفجر في عددها السابع لعام 1934م معتزاً ومتباهياً بثقافته الأدبية: «مما نحمد عليه الله أن دراستنا للشعر العربي لم تكن من نوع الدراسات التي يتناولها بعضهم ناقصة من كتب العصر مبتورة من بين الكتاب، ثم يصدرون عنها وهم أشد قنوعاً، وأكثر ثقة في نفوسهم بما فقهوا من صور الأدب، واستظهروا من ألوانه، إنما كانت دراستنا له دراسة استقراء وتفهم يؤسسها انقطاعنا إلى قديمه، أجل مما نحمد عليه الله أن مهد لنا من دراسة الشعر العربي ما يؤهلنا للحكم عليه في ضوء الحديث، والبحث عمّا أثّر فيه من عوامل وعمل فيه من مؤثرات في كل ما مرّ به من أطوار».
ولم يكتفِ شاعرنا الخبير بقرض الشعر، البصير بمذاهب الكلام، بالاطلاع على أمهات الكتب الأدبية بل تعداها بحكم دراسته في المعهد العلمي لإدمان كتب المتصوفة والمؤلفات التي تعنى بالفرق والطوائف الدينية، ومن أشهر الكتب التي أقذى عينيه تحت أضواء المصابيح في مطالعتها كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني، و«الرسالة القشيرية» لابن القاسم عبدالكريم هوازن، و«الحكم» لابن عطا السكندري، ويرى الناقد محمد عبد القادر كرف أن هذه الكتب وغيرها أضفت على شعر التيجاني ذلك الغموض الذي تبدى في الكثير من قصائده خاصة في «قلب فيلسوف» و«الله» و«أنبياء الحقيقة» و«الصوفي المعذب».
ولعل الغموض الذي يعتري جُلّ قصائد التيجاني لا يمكن أن نعزوه لاستغراق شاعرنا في قراءة كتب الدين والفلسفة وحدها بل للظروف القاسية التي شابت حياة الشاعر من فقر مدقع، وفصل مقذع، وداء مفزع، ولطبيعته المتوثبة التي كانت ترنو بأن يكون لها شأن وقدم راسخة في الأدب، فطائفة من النقاد ترى أن التيجاني كان يهدف من قرض الشعر والتهويمات، وتدبيج الصحف بالمقالات المموسقات، إلي الظهور والحذلقة وإثبات تفوقه على أخدانه وأقرانه، فقد استشعر التيجاني كما يقول هنري رياض صاحب كتاب «التيجاني يوسف بشير شاعراً وناثراً» منافسة حادة بينه وبين زميله وابن عمه عبدالوهاب محمد القاضي من ناحية وبينه وبين شعراء كلية غردون من ناحية أخرى، مثل يوسف مصطفى التني، ومحمد أحمد المحجوب، ومحمد عثمان محجوب، وحسن طه، وذلك فضلاً على أن فصله من المعهد العلمي جعله يحس بضرورة تقديم دليل على تفوقه نتيجة جهده ودراسته الخاصة».
الشاعر الفذ، والناقد المتمكن، المرحوم محمد محمد علي استهجن في سفره القيم «محاولات في النقد» طلاسم الغموض الذي يراه لعنة على الأدب وأبان أن وظيفة الشاعر أو الفنان تنحصر «في شرح احساساته وأفكاره ووضعهما في صور متناسقة مشرقة، وأن يكون صاحب الفن صادق الشعور، يصور عن تجربة نفسية عميقة مكتملة، وأن يكون بعد ذلك بيناً واضح البيان»... الأستاذ الجليل محمد محمد علي عزا الغموض في شعر التيجاني إلى سببين رئيسين أولهما «أن أداته في الأداء لم تنضج فهي ما زالت في ريعان الحداثة الفنية. والثاني يمت بصلة إلى السبب الأول هو أن التيجاني كثيراً ما يهجم على موضوعات لم تعش في نفسه، ولم يكن لها صدى في حياته» .
وأحسب أن ما ذهب إليه المرحوم محمد محمد علي لم يحالفه الصواب من كل جانب، فالتيجاني الذي هصرته يد الردى، وطوته الغبراء، وهو في ملد الشباب قرّظ الآذان، وشنّف الأسماع، وأسكر الألباب، تماماً كما فعل طرفة بن العبد، فطراءة السن، وحداثة العمر، لا تحط من أفاضل الشعراء، وأكابر المُصنفين، وأعيان المُنشئين، فالفتى الذي يتحفنا بغرر القصائد المنقطعة القرين، لا ينبغي أن ندمغ أي قصور طاف ببعض أبياته بحكم الجبلة لرونق الحداثة، ونغفل عن هضابه الشاهقة التي استعصت على كل معتلٍ، لم يهجم قيثارة الشعر السوداني على موضوعات لم تعش في نفسه طويلاً، كما تفضل من يُعدُ من صاغة القريض، وكماة النقد في بلادي، لم يحدث ذلك، فديوان اشراقة برء من وصمة الصنعة والتكلف، ولم نستشف فيه بوادر الإسفاف والاعتساف.
الدكتور عبدالمجيد عابدين مؤلف كتاب «التيجاني شاعر الجمال» في سفره الجامع لشتيت الفوائد، ومنثور المسائل، أذاع رأياً قميناً بالذكر والاعتبار، فهو يرى أن التيجاني مولع بتجسيم المعاني، وتبادل المحسوسات، ولكن اسرافه فيهما، قد أدى به إلى غموض العبارة وتعقيدها، وكثيراً ما يلقي التيجاني بعبارات غامضة في خلال الأبيات إذ يترك فيها الضمائر مبهمة، لا يعرف القارئ إلامَ تعود على وجه التحقيق، ويترك الصورة غامضة دون توضيح.
الغموض في شعر التيجاني «يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتمحيص، وعلى الناقد الذي يريد أن يسبر أغوار هذا الغموض أن يتحلى بالصبر والأناة وقوة العارضة مع حدة البادرة والإلمام بشتى التفاصيل عن حياة الشاعر الذي استبد به الهم، وتكالبت عليه أكتاف الشدائد، حتى سكن نسيسُهُ، وعاجله سهم القضاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.