تسلا تسجل أرباحا مفاجئة خلال الربع الثالث    إعلام عبري: تجدد دوي صفارات الإنذار في كريات شمونة ومحيطها    وكالة الأونروا: إحدى شاحناتنا في غزة تعرضت لقصف مباشر بصاروخ إسرائيلي أدى إلى مقتل أحد موظفينا    قصف جوي أمريكي بريطاني يستهدف مواقع للحوثيين في مطار الحديدة    جيش الاحتلال يدعى انتماء 6 صحفيين بالجزيرة لفصائل المقاومة.. والقناة ترد    مانشستر سيتي يكتسح سبارتا براج بخماسية في دوري الأبطال    لاعب الزمالك السابق: التحكيم على مر التاريخ يفيد الأهلي    مدرب برشلونة يتغنى بهاتريك رافينيا أمام بايرن ميونخ ويوجه رسالة نارية ل ريال مدريد    مصرع وإصابة 9 أشخاص في حادث انقلاب سيارة سوزوكي ب 6 أكتوبر    ماس كهربائي وراء نشوب حريق بشقة المطرب أبو الليف في حدائق الأهرام    ضبط المتهم بواقعة سرقة قرط طفلة بالشرقية    قبل ساعات من انطلاقه.. مهرجان الجونة يعلن أسماء أعضاء لجان تحكيم دورته السابعة    خمول وتعب في الصحة العامة.. توقعات برج الدلو اليوم الخميس 24 أكتوبر    ما هي بدائل الشبكة الذهب؟.. الإفتاء توضح للمقبلين على الزواج    أذكار النوم: راحة البال والطمأنينة الروحية قبل الاستغراق في النوم    الأكاديمية الطبية العسكرية تنظّم المؤتمر السنوى ل«الطب النفسي»    إطلاق المرحلة الأولى لمبادرة «تشجير المدارس»    «طلعوا الجواكت».. بيان مهم عن حالة الطقس اليوم: موجة برد ورياح وأمطار في هذه المناطق    «جذع نخلة وماسورة مياه» وسيلة الوصول لمدارس 3 عزب بأسيوط    السكة الحديد تنظم ندوة توعية للعاملين عن مخاطر تعاطي المخدرات    برلماني: الحوادث في مصر 10 أضعاف المعدل العالمي    ارتفاع عدد ضحايا الهجوم الإرهابى فى أنقرة إلى خمسة قتلى    مفاجأة بشأن موعد محاكمة ثلاثي الزمالك في الإمارات    هدم «قبة حليم باشا» يثير جدلًا بين أعضاء ب«النواب» و«كبير الأثريين»    قبل قمة الأهلي والزمالك.. إعلامي يطرح سؤالا مثيرا للجمهور بشأن محمد بركات    تقرير أمريكى: «ترامب» يشيد بجنرالات «أدولف هتلر» المُخلصين    جامعة الأزهر تكشف حقيقة شكاوى الطلاب من الوجبات الغذائية    محافظ بورسعيد: نعمل سويًا مع الجامعة لرفع كفاءة الملاعب وتطويرها    عاجل - "أفضل خيار لشراء سيارة سيدان أوتوماتيك لعام 2024 بسعر 250 ألف"    بيان عاجل من هيئة السياحة حول تأشيرة الترانزيت للسعودية: ما الحقيقة؟    «آركين».. «كل نهاية بداية جديدة»    رفع أسعار خدمات الإنترنت الفترة المقبلة.. ما حقيقة الأمر؟    محمد صلاح يقود ليفربول للفوز على لايبزيج في دوري أبطال أوروبا    خبير اقتصادي: الهدف من مراجعة صندوق النقد تقليل وتيرة ارتفاع الأسعار    مشاكل تتعلق بالثقة بالنفس.. توقعات برج الجدي اليوم 24 أكتوبر    حظك اليوم| برج القوس الخميس 24 أكتوبر.. «وقت للتحول الإيجابي»    حظك اليوم| برج العقرب الخميس 24 أكتوبر.. «تعامل مع الخلافات بسلوك هادئ»    حظك اليوم| برج السرطان الخميس 24 أكتوبر.. «ركز على رفاهيتك الشخصية»    ضمن مبادرة بدايةٌ جديدةٌ.. فتوى الأزهر يعقد لقاءً توعويًّا لطلاب جامعة عين شمس    خبير: فشل النظام الدولي شجع دولة الاحتلال على القيام بالمزيد من الجرائم    حزب الله ينفي تحقيق جيش الاحتلال الإسرائيلي أي تقدم جنوب لبنان    تهنئة بقدوم شهر جمادى الأولى 1446: فرصة للتوبة والدعاء والبركة    هندريك: مباراة الأهلي والزمالك تشبه كلاسيكو إسبانيا.. والأحمر سينتقم    «المصريين الأحرار»: لا يوجد نظام انتخابي مثالي.. والقوائم تتجنب جولات الإعادة    سعر الذهب اليوم الخميس في مصر يواصل الارتفاع.. عيار 21 يحطم الأرقام القياسية (تفاصيل)    بهاتريك رافينيا.. برشلونة يقسو على بايرن ميونخ برباعية في دوري أبطال أوروبا    حصاد 83 يوما .. حملة «100 يوم صحة» قدمت أكثر من 131 مليون خدمة طبية مجانية    أخبار كفر الشيخ اليوم.. المحافظ يشهد احتفالية البطولة الإقليمية لطلاب مدارس التربية الخاصة    وزير الصحة يبحث دعم خدمات الصحة الإنجابية مع إحدى الشركات الرائدة عالميا    المصريين الأحرار: يجب على كل حزب توضيح الأيديولوجيا الخاصة به    بث مباشر.. مؤتمر صحفي لرئيس الوزراء عقب الاجتماع الأسبوعي للحكومة    لتغيبه عن العمل.. محافظ البحيرة تقرر إقالة مدير الوحدة الصحية بقرية ديبونو    «زيارة مفاجئة».. وزير التعليم يتفقد مدارس المطرية | تفاصيل    وزيرة التضامن تشارك في جلسة رفيعة المستوى حول برنامج «نورة»    محافظ المنيا: تقديم خدمات طبية ل 1168 مواطناً خلال قافلة بسمالوط    لماذا العمل والعبادة طالما أن دخول الجنة برحمة الله؟.. هكذا رد أمين الفتوى    رئيس فاكسيرا: توطين صناعة لقاح شلل الأطفال بالسوق المحلي بداية من 2025    بركات يوم الجمعة وكيفية استغلالها بالدعاء والعبادات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحداثة... سحر المفردة وغياب النص
نشر في صوت البلد يوم 12 - 02 - 2020

لا أظن أنَّ مفردة تحمل إغراءً وإشعاعًا قويًّا أكثر من مفردة "الحداثة"في حقل الأدب والثقافة بشكل عام، فلا يوجد جرسٌ أجمل من جرسها، وهو جرسٌ معنوي أكثر منه محسوساً، لأنَّ غالبية الكتاب والشعراء يتصورون أنَّهم القابضون على هذه المفردة، ومن سيقبض عليها، فإنَّه -بالتالي- ستكون بين يديه مفاتيح الحياة الإبداعية. وهكذا، منذ فتحنا أعيننا على الحياة الثقافية، وعلى الوسط الشعري تحديداً، ونحن في بالنا شيءٌ واحد، وهو مفردة "الحداثة"طبعًا، دون أنْ نقرأ عنها شيئًا، ولا نفهمها دائمًا، بل كلَّما قرأنا عنها ازددنا غموضًا، وفي الوقت نفسه ازددنا تمسكًا بها، لأنَّها غامضة وغير مفهومة، مما يعني أنَّها مغرية وساحرة، لذا يجب التشبث بها، لأنَّها قاربُ عبورنا بحر الأدب والشعر.
كل هذا ونحن لا نعرف معناها بالتحديد، ما عدا أشياء بسيطة كنَّا نتصورها في وجوه بعض الرواد، وبعض روَّاد المقاهي الثقافية أيَّام التسعينات، ولكننا كنَّا في وسط المعمعة التي تتصارع حول هذا المصطلح، وكأنَّ "الحداثة"بئر ماء يتقاتل حوله العطاشى، بحيث يحاول كل طرف أنْ يطرد الطرف الآخر بعيدًا عن ذلك البئر، ويمنع روَّاده من شرب أي قطرة ماء، أو غسل اليدين منه.
فما الحداثة؟ وما حدودها؟ وكيف يمكن أنْ نقبض على مواصفاتها؟ ومن الشاعر الحداثي؟ هل هو النص أم الناص أم المجتمع؟ هل الحداثة مرتبطة بالزمن أم أنَّها سائلة لا زمان لها ولا مكان؟ هل أبو نواس حداثي فيما شاعر معاصر مثل محمد بحر العلوم -على سبيل المثال- تقليدي؟ هل الحداثة مدرسة أدبية أو مذهب أدبي يُشبه الرومانسية أو الواقعية أم هي حالة وسلوك حياتي؟ وهل تنمو الحداثة في النظم الديكتاتورية؟ ومن يسقي شجرتها التي لا تتنفس إلا هواءَ الحرية؟ هل الحداثة هي القطيعة التامة مع الماضي أم هي استئناف اللحظة التاريخية والبناء فوقها؟ وهل للحداثة علاقة بالإبداع أم أن الإبداع شيءٌ والحداثة شيءٌ آخر، وبهذا يمكننا أنْ نجد نصوصاً حداثية ولكنها غير مثيرة ولا مبدعة؟ وهل الحداثة مرتبطة بالشكل أم بالجوهر؟ وهل المجتمع المتدين أو القروي أو العشائري يمكن أنْ يُنتج نصًّا حداثيًّا؟ وهل نحن العرب قضمنا نبتة الحداثة التي سقتها الحريات الغربية حين عزلت الدين عن الدولة وبنت مجتمعها المدني أم أنَّها حاجة عربية ضرورية أنتجها مجتمع ما بعد الحرب العالمية الثانية، وصعود التيارات القومية، وبداية تشكل الأحزاب؟
أسئلة كثيرة وقائمة طويلة تدور في فلك هذه المفردة الساحرة، لكننا لم نكن نسألها سابقًا، إنَّما طرحناها الآن، فلو كنَّا نعرف طرح مثل هذه الأسئلة في ذلك الوقت، لما تقاتلنا على مشروع لا نعرف منه إلا اسمه، وليس لنا من حظه إلا رسمه من بعيد، كلنا يحلم أنْ يتبرك بحائط الحداثة، وأنْ تحتَّك قصيدته بذلك الحائط، لتخرج بيضاء للمتلقين دون أنْ نعرف كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟
وحين أعود إلى أكثر من عشرين عامًا، إلى تلك اللحظة التي كنَّا نتصوَّر أنَّنا نتاج الحداثة، وأنَّنا نُنتج نصاً حداثياً دون غيرنا، وأصدرنا بياناتٍ شعرية بهذا الاتجاه، دون أنْ نُحيط علمًا -كما ذكرتُ- بمفهوم الحداثة وجوهرها. فشعراء قصيدة النثر ينظرون إلى الشكل الشعري بوصفه الشكل الأحدث في الأنواع الشعرية، مما يقتضي أنَّه الإطار الأكثر استيعابًا لجدل الحداثة، وأنَّه النص المُختار دون بقية الأشكال الشعرية، النص الذي اختارته الحداثة ليكون ابنها البار، فيما يرى شعراء الإيقاع أنَّهم الأكثر التصاقًا بالحداثة، بوصف الإيقاع نهراً يتدفق فيه الخيال، مما يساعدهم على استجلاب أغرب الصور السوريالية والفنتازية، وما صراعنا نحن أبناء الجيل التسعيني إلا محاولة لعكس صراعات الأجيال الشعرية العراقية، وبالتحديد صراعات الجيل الستيني مع سابقيه من الرواد، ولاحقيه من بقية الأجيال، وطبعًا محور كل تلك الصراعات هو من سيجلس على كرسي الحداثة ليُنهي ويأمر، فيما أنَّ الحداثة أبعد ما تكون عن النهي والأمر، ولكن بقي الشعراء يتطاحنون على هذا الكرسي دون أنْ يخرج صوتٌ نقدي واضحٌ يُفهمهم ما الحداثة، وهل هم من سلالتها أم لا.
لهذا، حين نستحضر لحظة أواسط التسعينات من القرن الماضي، لحظة احتدام الصراع على كرسي الحداثة، فيما كنَّا نبيع كراسي بيوتنا في الأسواق الشعبية لتأمين بضعة كيلوغرامات من الطحين لسد أفواهنا من الجوع، أفواهنا التي لا تسكت وهي تثرثر في الحداثة، وكنَّا نكتب نصوصًا تتجول حول العالم، فيما كنَّا محرومين من السفر لأي بلدٍ، ولا ندخل البلدان إلا لاجئين أو هاربين من النظام، ومن الحصار، ومن كل شيء، نكتب عن انتصار الذات في القصيدة، فيما تعاني ذواتنا في الواقع أشدَّ أنواع القمع والاغتراب، نكتب ما كنَّا نتصوره حداثة في نصوصنا، طارحين وجهة نظرنا بالعالم كله، فيما كانت القرية متحكمة بسلوكنا وتصرفاتنا، نكتب عن النساء والحب، ونطالب بحرية المرأة، فيما كنَّا نغلف نساءنا بكل أستار العالم خوفاً من عيون الغرباء.
نردد بسرِّنا ما يقوله أدونيس:
عشْ ألقًا
وابتكرْ قصيدة وامضِ
زدْ سعة الأرض
بينما سلوكنا الطبيعي كان مع "دريد بن الصمة"وهو يردد:
وما أنا إلا من غزية إنْ غوت
غويتُ وإنْ ترشد غزية أرشدِ
نتحدث في الحداثة في زمن تخيّم عليه الديكتاتورية، وتطبق بفكيها على كل الحريات، بينما العالم لا يؤمن بحداثة في ظلِّ عدم التداول السلمي للسلطة، نؤمن بالحداثة ونثرثر بها كثيراً، وربما حتى هذه اللحظة لم يتغير كثير من سلوكيات بعضنا، رغم الانفتاح والكتابة على الحائط الافتراضي لهذا العالم، إلا أننا نقضم الحداثة قضماً، دون أنْ تتسلل لنا مع طفولتنا، لهذا نجد صراعات القرية متفشية فوق حائط "فيسبوك"أو "تويتر"، ونجد الصراعات الطائفية مبثوثة في أحدث الاكتشافات التقنية في هذا العالم، بل إنَّ القوى المتطرفة، أمثال "داعش"وغيرها، استثمرت السوشيال ميديا استثماراً كبيراً، لتبثَّ من خلاله الرعب والخوف، فأي تناقض يمارس ضمن هذا الفهم والوعي للحداثة أمام السلوك غير الحداثي؟!
إنَّ هذا القلق أمام فكرة الحداثة ليس قلقاً جديداً، فقد سماها الشاعر الكاتب العراقي فوزي كريم في كتابه الشهير "ثياب الإمبراطور"بالوصفة السحرية، متحدثاً عن الشعر العربي الذي يدَّعي الحداثة (فإن كثيراً من شعرنا العربي الذي نطالعه اليوم قد أخذ صبغة من تلك الكلمة السحرية بفعل كيميائي صبغة حديثة تشبه حداثة الغرب، أما جوهرها فمنتشٍ بروح الصنعة واللعب اللفظي والمهارة الذهنية). كما تساءل الناقد السعودي عبد الله الغذَّامي أيضاً في كتابه المهم "النقد الثقافي»، وفي أسطره الأولى أيضًا، حيث قال: "هل الحداثة العربية حداثة رجعية؟ (...) هل هناك أنساق ثقافية تسربت من الشعر وبالشعر لتؤسس لسلوك غير إنساني وغير ديمقراطي؟). وهنا، نعود إلى الأسئلة أيضاً: كيف يمكن أنْ نعرف أن هذا النص حداثي دون غيره؟ وكيف نحكم على الشاعر بأنَّه حداثي؟ وهل إطلاق صفة حداثي على الشاعر هو حكم معياري بجودة نصه أم أنَّه توصيف لنمط شعري يكتنف نصَّه، مثلما نقول هذا شاعر كلاسيكي أو رومانسي أو واقعي؟
الأمر ملتبسٌ إلى حد كبير -كما أتصور- ولا توجد حدود واضحة لكل الأسئلة التي تراودنا حول مشروع الحداثة الذي يغرينا فيه خط النهاية، فنسرع خطواتنا لنصل، لكن موانع المجتمع وما حوله دائمًا تُطيل المسافة، فنبقى نكتب ونكتب ونكتب حتى نصل إلى مرحلة التضخم، وهنا تلتقي قصائدنا ولغتها المتضخمة مع العملة النقدية التي تواجه التضخم، فتضطر أنْ تحمل معك المئات من الأوراق النقدية لتشتري بها سلعة بسيطة جدًّا، وهذا ما حصل معنا أيام الحصار. وهنا، تذكرتُ ما كتبه فلوريان كولماس في كتابه العظيم "اللغة والاقتصاد"، حين قال: "إنَّ الكلمات تُسكُّ كما تُسكُّ العملات، وتظل متداولة ما دامت سارية المفعول فهي (أي الكلمات) عملة التفكير، ونحن نملك منها أرصدة سائلة، بقدر ما نمتلك ناصية لغة معينة. وعندما نتفاهم مع أحد، فإننا نتفق على ثمن يجب دفعه، وعندما لا نكون مخلصين، فإننا لا ندفع إلا كلامًا زائفًا".
لا أظن أنَّ مفردة تحمل إغراءً وإشعاعًا قويًّا أكثر من مفردة "الحداثة"في حقل الأدب والثقافة بشكل عام، فلا يوجد جرسٌ أجمل من جرسها، وهو جرسٌ معنوي أكثر منه محسوساً، لأنَّ غالبية الكتاب والشعراء يتصورون أنَّهم القابضون على هذه المفردة، ومن سيقبض عليها، فإنَّه -بالتالي- ستكون بين يديه مفاتيح الحياة الإبداعية. وهكذا، منذ فتحنا أعيننا على الحياة الثقافية، وعلى الوسط الشعري تحديداً، ونحن في بالنا شيءٌ واحد، وهو مفردة "الحداثة"طبعًا، دون أنْ نقرأ عنها شيئًا، ولا نفهمها دائمًا، بل كلَّما قرأنا عنها ازددنا غموضًا، وفي الوقت نفسه ازددنا تمسكًا بها، لأنَّها غامضة وغير مفهومة، مما يعني أنَّها مغرية وساحرة، لذا يجب التشبث بها، لأنَّها قاربُ عبورنا بحر الأدب والشعر.
كل هذا ونحن لا نعرف معناها بالتحديد، ما عدا أشياء بسيطة كنَّا نتصورها في وجوه بعض الرواد، وبعض روَّاد المقاهي الثقافية أيَّام التسعينات، ولكننا كنَّا في وسط المعمعة التي تتصارع حول هذا المصطلح، وكأنَّ "الحداثة"بئر ماء يتقاتل حوله العطاشى، بحيث يحاول كل طرف أنْ يطرد الطرف الآخر بعيدًا عن ذلك البئر، ويمنع روَّاده من شرب أي قطرة ماء، أو غسل اليدين منه.
فما الحداثة؟ وما حدودها؟ وكيف يمكن أنْ نقبض على مواصفاتها؟ ومن الشاعر الحداثي؟ هل هو النص أم الناص أم المجتمع؟ هل الحداثة مرتبطة بالزمن أم أنَّها سائلة لا زمان لها ولا مكان؟ هل أبو نواس حداثي فيما شاعر معاصر مثل محمد بحر العلوم -على سبيل المثال- تقليدي؟ هل الحداثة مدرسة أدبية أو مذهب أدبي يُشبه الرومانسية أو الواقعية أم هي حالة وسلوك حياتي؟ وهل تنمو الحداثة في النظم الديكتاتورية؟ ومن يسقي شجرتها التي لا تتنفس إلا هواءَ الحرية؟ هل الحداثة هي القطيعة التامة مع الماضي أم هي استئناف اللحظة التاريخية والبناء فوقها؟ وهل للحداثة علاقة بالإبداع أم أن الإبداع شيءٌ والحداثة شيءٌ آخر، وبهذا يمكننا أنْ نجد نصوصاً حداثية ولكنها غير مثيرة ولا مبدعة؟ وهل الحداثة مرتبطة بالشكل أم بالجوهر؟ وهل المجتمع المتدين أو القروي أو العشائري يمكن أنْ يُنتج نصًّا حداثيًّا؟ وهل نحن العرب قضمنا نبتة الحداثة التي سقتها الحريات الغربية حين عزلت الدين عن الدولة وبنت مجتمعها المدني أم أنَّها حاجة عربية ضرورية أنتجها مجتمع ما بعد الحرب العالمية الثانية، وصعود التيارات القومية، وبداية تشكل الأحزاب؟
أسئلة كثيرة وقائمة طويلة تدور في فلك هذه المفردة الساحرة، لكننا لم نكن نسألها سابقًا، إنَّما طرحناها الآن، فلو كنَّا نعرف طرح مثل هذه الأسئلة في ذلك الوقت، لما تقاتلنا على مشروع لا نعرف منه إلا اسمه، وليس لنا من حظه إلا رسمه من بعيد، كلنا يحلم أنْ يتبرك بحائط الحداثة، وأنْ تحتَّك قصيدته بذلك الحائط، لتخرج بيضاء للمتلقين دون أنْ نعرف كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟
وحين أعود إلى أكثر من عشرين عامًا، إلى تلك اللحظة التي كنَّا نتصوَّر أنَّنا نتاج الحداثة، وأنَّنا نُنتج نصاً حداثياً دون غيرنا، وأصدرنا بياناتٍ شعرية بهذا الاتجاه، دون أنْ نُحيط علمًا -كما ذكرتُ- بمفهوم الحداثة وجوهرها. فشعراء قصيدة النثر ينظرون إلى الشكل الشعري بوصفه الشكل الأحدث في الأنواع الشعرية، مما يقتضي أنَّه الإطار الأكثر استيعابًا لجدل الحداثة، وأنَّه النص المُختار دون بقية الأشكال الشعرية، النص الذي اختارته الحداثة ليكون ابنها البار، فيما يرى شعراء الإيقاع أنَّهم الأكثر التصاقًا بالحداثة، بوصف الإيقاع نهراً يتدفق فيه الخيال، مما يساعدهم على استجلاب أغرب الصور السوريالية والفنتازية، وما صراعنا نحن أبناء الجيل التسعيني إلا محاولة لعكس صراعات الأجيال الشعرية العراقية، وبالتحديد صراعات الجيل الستيني مع سابقيه من الرواد، ولاحقيه من بقية الأجيال، وطبعًا محور كل تلك الصراعات هو من سيجلس على كرسي الحداثة ليُنهي ويأمر، فيما أنَّ الحداثة أبعد ما تكون عن النهي والأمر، ولكن بقي الشعراء يتطاحنون على هذا الكرسي دون أنْ يخرج صوتٌ نقدي واضحٌ يُفهمهم ما الحداثة، وهل هم من سلالتها أم لا.
لهذا، حين نستحضر لحظة أواسط التسعينات من القرن الماضي، لحظة احتدام الصراع على كرسي الحداثة، فيما كنَّا نبيع كراسي بيوتنا في الأسواق الشعبية لتأمين بضعة كيلوغرامات من الطحين لسد أفواهنا من الجوع، أفواهنا التي لا تسكت وهي تثرثر في الحداثة، وكنَّا نكتب نصوصًا تتجول حول العالم، فيما كنَّا محرومين من السفر لأي بلدٍ، ولا ندخل البلدان إلا لاجئين أو هاربين من النظام، ومن الحصار، ومن كل شيء، نكتب عن انتصار الذات في القصيدة، فيما تعاني ذواتنا في الواقع أشدَّ أنواع القمع والاغتراب، نكتب ما كنَّا نتصوره حداثة في نصوصنا، طارحين وجهة نظرنا بالعالم كله، فيما كانت القرية متحكمة بسلوكنا وتصرفاتنا، نكتب عن النساء والحب، ونطالب بحرية المرأة، فيما كنَّا نغلف نساءنا بكل أستار العالم خوفاً من عيون الغرباء.
نردد بسرِّنا ما يقوله أدونيس:
عشْ ألقًا
وابتكرْ قصيدة وامضِ
زدْ سعة الأرض
بينما سلوكنا الطبيعي كان مع "دريد بن الصمة"وهو يردد:
وما أنا إلا من غزية إنْ غوت
غويتُ وإنْ ترشد غزية أرشدِ
نتحدث في الحداثة في زمن تخيّم عليه الديكتاتورية، وتطبق بفكيها على كل الحريات، بينما العالم لا يؤمن بحداثة في ظلِّ عدم التداول السلمي للسلطة، نؤمن بالحداثة ونثرثر بها كثيراً، وربما حتى هذه اللحظة لم يتغير كثير من سلوكيات بعضنا، رغم الانفتاح والكتابة على الحائط الافتراضي لهذا العالم، إلا أننا نقضم الحداثة قضماً، دون أنْ تتسلل لنا مع طفولتنا، لهذا نجد صراعات القرية متفشية فوق حائط "فيسبوك"أو "تويتر"، ونجد الصراعات الطائفية مبثوثة في أحدث الاكتشافات التقنية في هذا العالم، بل إنَّ القوى المتطرفة، أمثال "داعش"وغيرها، استثمرت السوشيال ميديا استثماراً كبيراً، لتبثَّ من خلاله الرعب والخوف، فأي تناقض يمارس ضمن هذا الفهم والوعي للحداثة أمام السلوك غير الحداثي؟!
إنَّ هذا القلق أمام فكرة الحداثة ليس قلقاً جديداً، فقد سماها الشاعر الكاتب العراقي فوزي كريم في كتابه الشهير "ثياب الإمبراطور"بالوصفة السحرية، متحدثاً عن الشعر العربي الذي يدَّعي الحداثة (فإن كثيراً من شعرنا العربي الذي نطالعه اليوم قد أخذ صبغة من تلك الكلمة السحرية بفعل كيميائي صبغة حديثة تشبه حداثة الغرب، أما جوهرها فمنتشٍ بروح الصنعة واللعب اللفظي والمهارة الذهنية). كما تساءل الناقد السعودي عبد الله الغذَّامي أيضاً في كتابه المهم "النقد الثقافي»، وفي أسطره الأولى أيضًا، حيث قال: "هل الحداثة العربية حداثة رجعية؟ (...) هل هناك أنساق ثقافية تسربت من الشعر وبالشعر لتؤسس لسلوك غير إنساني وغير ديمقراطي؟). وهنا، نعود إلى الأسئلة أيضاً: كيف يمكن أنْ نعرف أن هذا النص حداثي دون غيره؟ وكيف نحكم على الشاعر بأنَّه حداثي؟ وهل إطلاق صفة حداثي على الشاعر هو حكم معياري بجودة نصه أم أنَّه توصيف لنمط شعري يكتنف نصَّه، مثلما نقول هذا شاعر كلاسيكي أو رومانسي أو واقعي؟
الأمر ملتبسٌ إلى حد كبير -كما أتصور- ولا توجد حدود واضحة لكل الأسئلة التي تراودنا حول مشروع الحداثة الذي يغرينا فيه خط النهاية، فنسرع خطواتنا لنصل، لكن موانع المجتمع وما حوله دائمًا تُطيل المسافة، فنبقى نكتب ونكتب ونكتب حتى نصل إلى مرحلة التضخم، وهنا تلتقي قصائدنا ولغتها المتضخمة مع العملة النقدية التي تواجه التضخم، فتضطر أنْ تحمل معك المئات من الأوراق النقدية لتشتري بها سلعة بسيطة جدًّا، وهذا ما حصل معنا أيام الحصار. وهنا، تذكرتُ ما كتبه فلوريان كولماس في كتابه العظيم "اللغة والاقتصاد"، حين قال: "إنَّ الكلمات تُسكُّ كما تُسكُّ العملات، وتظل متداولة ما دامت سارية المفعول فهي (أي الكلمات) عملة التفكير، ونحن نملك منها أرصدة سائلة، بقدر ما نمتلك ناصية لغة معينة. وعندما نتفاهم مع أحد، فإننا نتفق على ثمن يجب دفعه، وعندما لا نكون مخلصين، فإننا لا ندفع إلا كلامًا زائفًا".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.