ستتغير أوروبا بعد أحداث باريس لأنها تركت للإرهاب حرية التنقل بين بلدانها، بينما سعت إلى تقييد حرية الإرهابيين. الآن يشحذ الغرب هممه للانتقام من داعش. سيكون هذا الانتقام بالطبع في شوارع الرقة والموصل، وسيتجاهل كالعادة شوارع لندنوباريس. في السابق كان الجهاديون يهربون من أوروبا إلى سوريا والعراق من أجل الالتحاق بتنظيمات متشددة. الآن يهرب الناس الذين يعرفون قيمة العيش تحت مظلة القيم الأوروبية أكثر من الأوروبيين أنفسهم من سوريا والعراق قاصدين الوصول إلى ملاذ آمن، وبين صفوفهم جهاديون أوروبيون عائدون إلى بلدانهم من أجل جعل حياة هؤلاء الهاربين وغيرهم أكثر تعاسة. لكن الخطر الأكبر دائما جاء من داخل الوعي الأوروبي الغائب بأزقة قذرة ومساجد في شوارع خلفية لا تعرف المعتدلين وزنازين مظلمة يخرج من رحمها مسلمون أوروبيون جاهزون لعمل أي شيء انتقاما من هذا المجتمع الذي لا يشبههم ولا يشبهونه. لم يكن منفذو الهجمات على ملعب لكرة القدم وقاعة احتفالات ومطاعم وحانات في باريس ذئابا منفردة، بل كانوا بالضبط "جنودا محترفين لكنهم بلا شرف"، كما وصفهم المعلق البريطاني المعروف نيك كوهين. اعتاد الفرنسيون، كما يفعل العرب دائما، أن يشكروا أجهزتهم الأمنية والاستخباراتية على اعتقال، بين الحين والآخر، أشخاص قبل أن يقدموا على ارتكاب مذابح مماثلة، لكنهم وجدوا أنفسهم على وقع المفاجأة مضطرين لملء أفواههم بالماء أمام فشل استخباراتي ذريع. المشكلة دائما هي أن حجم الرد الأوروبي في الداخل على الهجمات الإرهابية كان يتناسب فقط مع حجم الخسائر الضئيلة التي كانت تخلفها. فمنذ تحويل برجي التجارة العالمية في نيويورك إلى أنقاض عام 2001 على يد إرهابيين مماثلين لهؤلاء الذين نفذوا هجمات باريس إلى الآن، أبدت أوروبا مع الولاياتالمتحدة انتقاما شديد البأس من الإرهابيين في الخارج، لكنها لم تقم بأي رد فعل حقيقي تجاه التنظيمات المتشددة والدعاة المتطرفين الذين يتكدسون في مساجد مرسيليا وميونيخ وبرمنغهام، المدعومين من دول عربية أحيانا. لكن بعيدا عن كل هذا الضجيج، وسواء كان الغرب يخطط للانتقام في الداخل أو صب جام غضبه على الشرق الأوسط كالعادة، فقد تغيرت أوروبا التي نعرفها، وذهبت إلى غير رجعة. عندما عرف العرب الهجرة بكثافة إلى أوروبا لأول وهلة في السبعينات والثمانينات كان من السهل بمجرد النظر تمييز العربي المسلم في الشوارع والحانات والنوادي لقلة عدد العرب والمسلمين آنذاك، رغم قدرتهم غير المتوقعة حينها على الانسجام مع المجتمع من دون أي معاناة. لكن منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979 وصعود نظام الخميني، دخل المسلمون فعليا في حرب طائفية باردة بين السنة والشيعة غيرت نظرة الناس جذريا إلى الدين، وفوق كل ذلك غيرت أشكالهم وممارستهم للحياة اليومية. الآن لا يدري الأوروبيون إن كان هذا المسلم أو العربي قد وصل للتو إلى بلادهم أو أنه من الجيل الثاني الذي ولد أوروبيا لكنه لم يعش كأوروبي. لم يعد تمييز المسلمين المعتدلين بمجرد النظر سهلا كما كان في السابق بعد انتشار الأعراق والجنسيات المتباينة في كل العواصمالغربية الكبيرة بلا استثناء. مع ذلك ظل المسلمون المحافظون باختيارهم مميزين عن المسيحيين واليهود وكل معتنقي الديانات الأخرى، إذ يرفض الكثيرون منهم الاندماج والتعايش داخل مجتمعات تعيش أزمة فكرية خانقة. اعتاد الأوروبيون اليوم على رؤية في الشارع الواحد شخصين على الأقل يرتديان جلبابا قصيرا ويطلقان لحيتيهما، بينما باتت رؤية النقاب في شارع أكسفورد في لندن أو الشانزليزيه في باريس أمرا طبيعيا. مع كل هذا القصف الديني المتوالي الذي قاد إلى نهاية الإرهاب المنطقية، تقهقر الأوروبيون إلى الوراء. أخذ التنوع الثقافي والديني والعرقي وقيم التسامح التي لطالما عهدناها في المجتمعات الغربية في الانحسار شيئا فشيئا بعد هجمات مدريد عام 2004 وما تبعها من مذابح متتالية في لندن وبروكسل وأخيرا باريس. حتى الصحفيون والمفكرون الأوروبيون اختاروا طواعية فرض رقابة ذاتية على كتاباتهم منذ الهجوم الذي نفذه هذا العام إرهابيون على صحيفة شارلي إيبدو وقتلوا 13 صحفيا ورساما أساءوا للنبي محمد. لا يمكن وصم هؤلاء الصحفيين والكتاب بالجبن، وهم يشاهدون كل يوم انفصال جزر المسلمين الأوروبيين المنعزلة عن جسد مجتمعاتهم، وتحول المتدين منهم إلى راهب مفصوم يقتل الشاه ليلا. لم يعد المسلمون هذا المكون الأساسي في فرق كرة القدم أو المسرح أو الحكومات أو البرلمانات الأوروبية كما عهدناهم دائما. اختار الأوروبيون التأقلم مع مخاوفهم تجاه المسلمين، وفي نفس الوقت لم يجد المسلمون بدا من التعايش مع عزلتهم التي اختاروها طواعية من قبل، وسيكونون مجبرين عليها اليوم. رغم كل ذلك لم تتحول الدول الأوروبية إلى دول بوليسية. لكنها تدرك اليوم أن عليها أقله أن تتغير. معاهدة شينغن التي تضمن حرية التنقل بين الحدود المفتوحة لدول أوروبا لم تعد صالحة بصيغتها الحالية. وسائل الإعلام صارت بالفعل أكثر تسامحا مع إجراءات أمنية أكثر صرامة، يبقى المسلمون هدفا منطقيا لها. يمكن للفرنسيين أن يستمروا في رفع شعارات معادية للمتشددين والإرهابيين. يمكنهم أيضا أن يسوقوا كل المسوغات التي تؤدي إلى أن هؤلاء ليس لهم علاقة بالإسلام كما يحلو لشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وغيره من رجال الدين أن يرددوا دائما، من دون التطرق إلى جوهر المشكلة، وهي أننا مازلنا نتشبث بتلابيب العصور الوسطى ومفاهيم بعض الحمقى الذين عاشوا وقتها وكانوا يتشبثون هم أيضا بجلابيب من عاشوا في القرون الأولى! نقلاً عن صحيفة العرب