• فى مقالٍ نُشر بهذه الصحيفة الغراء بتاريخ 12/11/2011 بعنوان «الجلاسنوست هى مفتاح الطريق الصحيح» ناشدتُ أولى أمر البلاد آنذاك أن يأخذوا بسياسة الجلاسنوست التى تعنى المكاشفة والمصارحة، فى مخاطبة الشعب بكل حقائق الأحداث التى شهدها الوطن منذ يناير 2011 وتقييم وتوصيف تلك الأحداث فى ضوء المعلومات المؤكدة لأجهزة الدولة الأمنية والوقائع التى تم ضبطها فعلياً، وذلك لكشف ضبابية المشهد وتصحيح الصورة الذهنية لدى كل المواطنين، لأن أخطر وأشد ما يمكن أن يعصف بالمرء أو الدولة هى الأوهام, سواءً كانت أوهاماً بالصواب والقوة أم بالخطأ والضعف، ففى كلا الحالين يكون البناء على أسسٍ واهيةٍ وبالتالى تصبح النتائج كارثية. أما الحقيقة فهى مهما تكن مريرةً فإنها تتيح الرؤية الصائبة وتشحذ الإرادة الواعية لتخطى المحن وتجاوز العقبات وبناء المستقبل على أسسٍ قويةٍ ودعائم ثابتة، وكما قيل بحق فإن التشخيص الصحيح للداء يُعد نصف الطريق للعلاج. • كانت هذه رؤيتنا لأحد عناصر التعامل الواجب مع الواقع المصرى فى ذلك الحين، ولكنَّ من بيدهم زمام الأمور فى هذه الفترة آثروا طريقاً آخر فى التعامل مع المشهد المصرى بكل مفرداته المادية والمعنوية بُغيةَ الوصول بسفينة الوطن إلى بر الأمان، وإذا كنت ألتمس لهم العذر فى نهج المسايرة العاطفية الدافئة لموجات الصخب العاتية وحلقات الممارسات الجانحة المدمرة، وذلك نظراً لمناخ هذه الفترة وحساسيتها وتعدد المؤثرات الخارجية والداخلية فيها، إلا أننى مع ذلك لا أستطيع أن أُبرئ ساحتهم من الذنب عما ساد فى الوطن من تخبطٍ وتشرذمٍ وتناحرٍ واختلافٍ جرّاء ذلك النهج السياسى المرتعش. • لقد رأيت هذه المقدمة مناسبةً لموضوع حديثى اليوم عن الضجيج والجدل والنزال الذى أُثير بين أفراد المجتمع ونخبه وأطيافه السياسية وشرائحه الاجتماعية المختلفة، وكاد يصل إلى حد التحارب بسبب الحكم الذى أصدرته محكمة جنايات القاهرة بجلسة السبت 29/11/2014 ببراءة مبارك وباقى المتهمين فيما أُطلق عليها قضية القرن. وفيما أظن فإن ذلك الجدل والتناحر لم يكن له ما يبرره موضوعياً، خاصةً وأن ذلك الحكم -فى ظل ما أتاحته هيئة المحكمة من متابعةٍ إعلاميةٍ شاملة لمجريات المحاكمة على مدار ثلاث سنوات وما تكشّف من خلال التحقيقات والمحاكمات الأخرى الجارية فى ذات الإطار- بات متوقعاً لكل الخبراء والمهتمين بالشأن العام، بل ولسائر المواطنين المتابعين الأحداث بتجردٍ وحيادية. • وبعيداً عن دائرة ما لا يجوز بالتعليق على الحكم، وباعتباره فقط عنواناً للحقيقة، فإننى أراه من منظورٍ سياسى قد جاء حداً فاصلاً بين كثيرٍ من الحقائق وما اعتراها من أوهامٍ واعتقادات خاطئة كانت ضمن أسباب البلبلة التى عانى منها الوطن لفترة طويلة، ونستخلص من منطوقه وحيثياته فى هذا السياق ما يلى: (1) ثبوت المؤامرة الخارجية على مصر ودول المنطقة العربية لإسقاط وتدمير تلك الدول وإعادة تقسيمها، وفقاً لمخطط آثم أُعد بحنكةٍ وجرى تنفيذه بإحكامٍ تحت شعارٍ زائف بمسمى ثورات الربيع العربى. (2) أن جماعة الإخوان الإرهابية كانت أحدَ أهم أدوات تنفيذ ذلك المخطط، وأنها فى سبيل ذلك استباحت لنفسها كل جرائم الخسة والخيانة، من تخابرٍ وقتلٍ وترويعٍ وتخريبٍ وتدميرٍ، ولذا فقد جاء الحكم منطوياً على إدانته تلك الجماعة ومن شاركها قبل أن يكون قاضياً ببراءة المتهمين فى القضية. (3) أن الهبّة الشعبية فى يوم الخامس والعشرين من يناير 2011 رغم نقائها ووطنيتها وإخلاصها، وقعت ضحيةً للمؤامرة المعدة سلفاً والتى أحاطت بها من كل جانب، إلا أن الشعب العظيم اختزن أحزانه وآماله فى وجدانه العبقرى، حتى استطاع تحقيق ما يريد بثورته فى 30 يونية 2013. (4) أصبح ثابتاً على وجه الحصر والقطع واليقين كلُ من سقط شهيداً أو مصاباً فى أحداث تلك الفترة سواءً من المدنيين أو رجال الشرطة، وإذا كان الحكم الأخير وما سبقه من أحكامٍ لدوائر جنائيةٍ أخرى قد برّأت مبارك ورجال الأمن من تُهمِ قتل وإصابة المتظاهرين السلميين أو الاشتراك فيها أو التحريض عليها، وانطوت فى مجملها على أدلة الاتهام والإدانة بهذه التهم ضد تلك الجماعة الإرهابية، فإن إعادة طرح التساؤل الآن عمّن قتل وأصاب هؤلاء يصير من قبيل العبث الفكرى أو النوازع المغرضة. (5) أنه لا مجال للاعتقاد بعودة مبارك أو رموز نظامه إلى ساحة الحياة السياسية مرةً أخرى ارتكاناً إلى هذا الحكم الصادر ببراءته، لأن ذات الحكم عاب عليه وعلى عهده بما فيه الكفاية، ومن ثَمَّ تبقى المسئولية على الشعب ليعى ذلك. لواء بالمعاش E-Mail: