الآن، وقد أصبحت الصورة أقل تشويشاً، على ما نزعم، بالإيضاحات الموجزة للمفاهيم والمعاني الفلسفية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكل من الليبرالية والليبرالية الجديدة والمحافظة الجديدة، والفروقات الجوهرية والهامشية التي تميّزها، والتي أفردنا لها كامل مساحة مقالتنا السابقة المعنونة "رفعاً للبس الناشب بين الليبرالية والليبرالية الجديدة والمحافظة الجديدة"، فإن السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه هنا هو: وما هو موقع الليبرالية العربية والليبراليين العرب من هذه التشكيلات التطبيقية للمقاربات الليبرالية الغربية الكلاسيكية والمستجدة؟ واقع الحال يُنبئنا بأنه لا يوجد في عالمنا العربي حتى اليوم تيار ليبرالي واضح ومتماسك على صعيدي الفكر والممارسة، من دون أن نعني بذلك الإغفال والتقليل من شأن بعض الكيانات السياسية التقليدية المحدودة الأثر في الحراك السياسي والاجتماعي العربي، وبعض الأطر الناشئة التي تحاول أن تشق لها قناةً رفيعة وسط فوضى تكدس الكيانات السياسية ذات المنابت الإسلامية المتطرفة، والانحسار المريع للتيارات المدينية الحداثية المعبرة عن الشرائح الأوسع من فسيفساء خريطة القوى الاجتماعية في العالم العربي . ولعل هذا ربما قادنا إلى الاعتقاد، اتكاءً على الظاهر من الشواهد على الأقل، بأن من المتوقع أن يشهد "الطلب" على الليبرالية في العالم العربي، كخيار بديل لحالة الاستبداد، بشقيه الكلاسيكي التاريخي والديني، الإداري المجتمعي الكلي، بعض الانتعاش على المدى المتوسط في ضوء الفراغ السياسي والأيديولوجي الذي خلفته حالة الإحباط والتيه المجتمعي الناجمة عن كوارث ممارسات القوى القروسطية . ولكن سوف يبقى هذا مشروطاً بتواصل ضمور وتلاشي عناصر قوة الدفع التي وفرت "للبطريركية" السياسية شروط بقائها واستمرارها منذ نشأة الدولة العربية الحديثة المعترف بها دولياً من جهة، والكساد واندحار "التسونامي" الإرهابي الذي يشكله كوكتيل "القاعدة" و"داعش" ونسلاهما . وهي عملية سوف تستغرق بعض الوقت المرتبط مداه بعوامل دولية وإقليمية، إلى جانب العوامل الموضوعية والذاتية المحلية . إنما السؤال المثار هنا هو أنه حتى لو نحينا جانباً حتمية مُساءلة المُجادلين - ومنهم عدد ليس قليل من المتنطعين - عما إذا كانت الليبرالية هي الخيار الأنسب لعالمنا العربي لاستعادة دورته الحياتية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الطبيعية، المفقودة في حمأة هذا الصراع الاجتماعي المعوج والمشوه، وإعادته لمكانته النهضوية التي كان عليها في مرحلة استقلاله وبنائه الأولى قبل أن يتوه عنها تحت وطأة الاستحكامات التي حبست تطوره وتقدمه، والسؤال هو: وأي نوع من الليبرالية التي يبغي رواد الليبرالية العربية الجدد اليوم إلباس العالم العربي إيّاها؟ هل هي الليبرالية الكلاسيكية في طورها الأول؟ أم هي ليبرالية منتصف سبعينات القرن الماضي التي اختلقت مزيجها أحزاب الاشتراكيات الديمقراطية الأوروبية؟ أم هي الليبرالية الجديدة بنسختها الأمريكية والأوروبية المتوحشة والمسؤولة عن اتساع فجوة اللامساواة بصورة خطرة (بحسب هنري جاس؟)، فقد وصلت اللامساواة في أمريكا إلى مستوى لم تبلغه منذ أزمة الكساد العظيم في 1929-،1933 حيث صار 1 .0% من الأمريكيين يستحوذون على مقدار الثروة نفسها التي يحوزها 90% من الأمريكيين (كريستيان ساينس مونيتور 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2014) . اللافت أن النيوليبراليين العرب الذين يطرحون أنفسهم باعتبارهم نسخة جديدة من الليبرالية العربية الكلاسيكية، لا يقدمون إجابات صريحة وواضحة عن هذا التساؤل المحوري، بقدر ما يعرضون مرئيات مشوشة وغير متماسكة، تحتمل نوعاً من التحايل، إذ تمزج بين كليشيهات انتقائية من الليبرالية الكلاسيكية المعروفة ودفعات متجاسرة من جرعات النيوليبرالية المنسوخة "ديلفري" من مفردات قاموس مفاهيم وتوجهات المذهب الأمريكي المحافظ الجديد والتي هي أقرب لهذا الأخير من انتمائها المزعوم لليبرالية الجديدة . وإذا ما استثنينا المنحى المحافظ الجديد، النقلي، لبيانات ومقالات هؤلاء فيما خص المستوى السياسي، فإن الاشارات اليتيمة التي طرقوها حين تناولهم للمستوى الاقتصادي/ الاجتماعي، تدلل على ذلكم التشويش التنظيري الناجم عن قلة حيلة ابتكارية وتقليد بائس غير مقنع على الإطلاق . فما يدعو هؤلاء "لتجريبه"، وهو هنا الليبرالية بنسختها الأمريكية المتهتكة، خصوصاً في اتصالها بالبعدين الاقتصادي والاجتماعي، ليس جديداً، فلقد سبق أن تمت تجربته في مصر على يد الرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي تطوع، بدفعٍ من "أصدقائه الجدد"، لاستنساخ الطبعة الانجليزية من الليبرالية الجديدة التي كانت بدأت تطبقها بشراسة رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت ثاتشر منذ وصولها إلى رئاسة الحكومة في عام 1979 حتى خروجها منها في عام ،1990 عبر ما سمي آنذاك بسياسة الانفتاح الاقتصادي، والتي جاءت نتائجها كارثية على الاقتصاد المصري بتحويل مجراه من نمط الإنتاج إلى نمط الاستهلاك القائم على الاستيراد . وهو النمط الاقتصادي/ الاجتماعي الذي سوف تظل مصر تدفع فاتورة "الافتتان والتعلق" به لسنوات أخرى قادمة، إلى أن ينجح الحكم الجديد الذي يبدو أنه مستوعب لجوهر أزمة مصر وسبل إخراجها من محنتها عبر إعادتها لسكة الاقتصاد المنتج الذي كان سبب قوتها وهيبتها إقليمياً وعالمياً . هي إذاً مقارنة بين حقبتين في التاريخ الاقتصادي المصري المعاصر، الحقبة التنموية القائمة على أرجل الاقتصاد الحقيقي التي أشادها الحكم الناصري، والحقبة التنموية الهزلية التي كان عنوانها الانفتاح، والتي "أُذيبت"، خلال سنواتها القصيرة، الأصول المفتاحية لقواعد الاقتصاد المصري . وما دامت المقارنة تجر المقارنة، فلعل استدعاء الماضي القريب الذي كانت فيه الليبرالية عنواناً لحقبة تاريخية اقتصادية اجتماعية في العالم العربي، فيه تذكار نافع للمجاميع التي تحاول إحياء المقاربة الليبرالية في بلدانها . فلقد كانت المرحلة الليبرالية التي امتدت من ثلاثينات إلى أواخر سبعينات القرن الماضي، إحدى أكثر المراحل الزاهية في تاريخ عالمنا العربي المعاصر، كانت خلالها الطبقة الوسطى تشق طريقها بين أخاديد مكونات النسيج الاجتماعي البسيطة التكوين نتيجة محدودية الثروة وحيازات الملكية للأصول . ومع ذلك فقد شكلت هذه الطبقة الناشئة العمود الاجتماعي الفقري لازدهار ثقافة التنوير والتحديث الطبيعي المتدرج . ولولا سياسة حرق المراحل التي اتبعتها الأنظمة التي جاءت بها الانقلابات والثورات في أربعينات وخمسينات وستينات القرن الماضي، بإهدارها مكاسب المرحلة الليبرالية والقفز عليها قبل اكتمال بناها "التحتية"، الإدارية الكلية والاقتصادية والاجتماعية، إلى نوع من الاشتراكيات الطوباوية الشمولية، لكانت مجتمعات الحضر العربية التي أخذت بهذه المقاربة، أكثر نضجاً وأكثر عصياً على الارتداد الحضاري الذي ترزح تحته اليوم . يقول المفكر المغربي عبدالله العروي: "لم يعد مبرر القول إن في إمكان مجتمع ما اختزال المرحلة الليبرالية والدخول رأساً إلى الاشتراكية" . وعن الليبرالية العربية يقول العروي إنها "نشأت في إطار المجابهة بين مجتمع متغلب وآخر يشعر بالضعف والاستغلال . كانت مواجهة، ولكن كان كذلك تلاقح . تكونت جماعة، قليلة العدد، قامت بدور الوسيط المفاوض، ثم انتهى دورها بانتهاء الوضع الاستعماري . لكنها ظلت تحمل سمات الدور الذي قامت به، ظلت ضعيفة اجتماعياً، وبالتالي فكرياً، متهمة، معزولة في الداخل، ومحتقرة في الخارج، الجميع يرميها بانعدام الأصالة" . نقلا عن صحيفة الخليج