رغم أن مصر بشكلها الحالي ظهرت عام 3200 ق.م، بفضل الملك نارمر مينا موحد القطرين، الذي تعود جذوره الي محافظة سوهاج قلب الصعيد، الصعيد الذي ظل طوال التاريخ حائط الصد والحصن الأخير للدفاع عن الدولة المصرية، والمحافظ عليها من التفتت والضياع، والبداية الدائمة لعودة وحدتها وتماسكها منذ طرد الهكسوس وصولا لمواجهة الفرنسيين والانجليزا، ورغم ان نهر النيل شريان الوطن يجري في قلب ارض الصعيد ليصل الي كل مكان في مصر فيمنحه الحياة، الا انه دائما يعاني الاهمال، واهله عاشوا لعصور طويلة زواجا كاثوليكيا ومازالوا مع الفقر والجهل. ولأن حكوماتنا طول التاريخ الحديث لا تبحث عن حلول حقيقية، كما ان الانظمة المتتالية واجهت ومازالت أي مشكلة «بالطناش وتكبير الدماغ» احيانا، وبالمسكنات الوهمية و«القوانين الترقيعية» في اغلب الوقت، ما يؤدي لنتائج كارثية تكتشف بعد فوات الأون، وفي وقت لا ينفع فيه الندم، الا ان الصعيد ينال القسط الأكبر من الاهمال والفساد وبشكل متكرر وكأن «الصعايدة فرز تاني»، رغم مخالفة ذلك للدستور الذي ينص علي ان جميع المواطنين امام القانون سواء، ولهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، فلم يشفع للصعيد ان يكون احد ابنائه احد مؤسسي الجمهورية الاولي وقائد ثورة يوليو الرئيس جمال عبدالناصر ابن قرية بني مر بمحافظة اسيوط، لدرجة انه في عهده فوجئ برئيس وزرائه كمال الدين حسين «الفترة من 1960- 1962» يصدر قرارا بترحيل الصعايدة من القاهرة للتخلص مما أسماه وقتها ب «العشوائية والزحام»، وقتها طلب منه عبدالناصر بأن يتم ترحيله ايضا باعتباره صعيدياً ففهم رئيس الوزراء الأمر وتم اغلاق الملف، ليأتي عبدالرحيم شحاتة محافظ القاهرة في تسعينات القرن الماضي ليجدد الامر في عهد مبارك مطالباً بترحيل الصعايدة لتتخلص القاهرة الكبري من زحامهم وتراجع عن القرار لاعتبارات أمنية لكنه ترك مرارة في قلوب كل اهلنا في الصعيد أحفاد وأبناء طه حسين والعقاد ومجدي يعقوب، فالعشوائية وسوء التنظيم مسئولية الحكومات المتعاقبة والتي لم يأت من بين رؤسائها واحد من الجنوب منذ عقود طويلة، فالصعايدة الذين بنوا مصر بينهم ملايين الأكفاء والمتخصصين يستحقون أهم المناصب لو كانت الكفاءة هي المعيار الوحيد. الأكثر مرارة من ذلك، أن الموروث الشعبي المصري يري في بعض طبقاته انه لا يحق لصعيدي ان يكون رئيسا للجمهورية، مرجعين ذلك الي نكسة 1967 والصاقها بعبدالناصر وحده كدليل وهمي علي سوء ادارة «الصعايدة»، ونسي هؤلاء او تناسوا عن عمد ان مجلس قيادة الثورة كان يضم مصريين من مختلف انحاء الجمهورية، ومن حققوا انتصار أكتوبر يمثلون أبناء مصر جميعا وفي مقدمتهم ابناء الصعيد، وان مشروع ناصر القائم علي العدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية واستقلال القرار الوطني مازال عائشا بعد 44 عاما من رحليه ورغم اختلافنا معه في بعض الممارسات، الا ان مشروعنا الثوري الآن يحمل نفس المبادئ. الحقيقة أننا ضد تقسيم الوطن الي ثنائيات، صعايدة وفلاحين، مسلمين ومسيحيين، فتلك التوصيفات صنيعة الاحتلال الانجليزي الذي كان يعمل وفقا لمبدأ فرق تسد، وضد الحديث عن اهدار حقوق الاقليات سواء البدو أو النوبة أو غيرهم، فجميعنا مصريون وفقا لدستور يعلي من قيم المساواة، كما أننا ندرك أن اللحظة الراهنة التي يمر بها الوطن لا تحتمل الانقسام والتشرذم، إلا أنه من الخطر ان ندفن رؤوسنا في الرمال، وان نتجاهل مشاكلنا المتراكمة عبر عقود طويلة، فالمواجهة والعلاج العلمي والتخطيط السليم، الحل الوحيد، لمواجهة ما نعانيه من موروث ثقافي واجتماعي واداري عقيم. ربما تلك الصرخة لم تكن تخرج من بين جدران ضلوعنا لولا ما شهدته مصر خلال الايام الماضية من تناقض في التعامل مع حادثين يجعلان أي انسان يتوقف امامهما طويلا، هما وفاة 11 طالبة من جامعة سوهاج نتيجة اهمال المسئولين جميعا، وبعدها بيومين وفاة 18 طالباً في محافظة البحيرة نتيجة نفس الاهمال تقريبا، في الأولي سكت الاعلام أو تم إخراسه، وتعاملت الحكومة بلا مبالاة ودفعت 20 ألف جنيه لكل متوفي بينما لم يتحرك أي وزير لسوهاج، وفي الثانية انتقل رئيس الوزراء و7 محافظين بانفسهم الي موقع الحادث وتم صرف 50 الف جنية تعويضاً عاجلاً لكل متوفي قابلة للزيادة فقط لمجرد أن الاعلام اثار الموضوع بقوة، ورغم أن أموال الدنيا لن تعيد من رحلوا سواء في سوهاج او البحيرة، ولن تتساوي دمعة أم أو أب ملكوم هنا او هناك، إلا أن الصعايدة ظلوا «فرز تاني» ورقماً مجهولاً في دفتر احوال الوطن، وتسعيرة الحكومة المغيبة تتحدد وفقا لصراخ الاعلام وليس وفقا لقيم انسانية ومعايير دستورية وقانونية موحدة، فلا يمكن لحكومة تعمل وفقا لمبدأ «الخيار والفقوس» أن تنجح في الحصول علي ثقة شعبنا ويبقي التفكير في إقالتها ضرورة لابد ان تفكر فيها القيادة السياسية. إن النظرة الي الصعيد لا تشمل فقط إعادة المساواة لمواطنيه مع اخوتهم من أبناء الشعب والاعتراف بدورهم في بناء الوطن، وليس فقط بمنحهم مواقع قيادية يستحقونها وغابوا عنها نتيجة موروث اجتماعي خرب، ولكن تمكين جميع أبناء الوطن يكمن في العدالة ومنح فرص متساوية للجميع، علاوة علي اختيار مسئولين قادرين علي النهوض بالجنوب المنسي والممتد من الجيزة وحتي اسوان، وعدم نقل أي مسئول ينجح في الصعيد وكأن محافظاته للتأديب وفقط، ويبقي اللواء عادل لبيب وزير التنمية المحلية الحالي ومحافظ قنا الأسبق نموذجا يستحق التعميم في مختلف مواقع المسئولية، بعدما نجح في تحويلها لمحافظة غاية في الانضباط والتنمية، وهو ما أهله ليكون رقما مهما في رسم سياسه الوطن، فهل نجد محافظين للصعيد ومسئولين في الصعيد علي نفس المستوي ام ستظل مكافأة نهاية الخدمة لأشخاص «نص كم»؟؟. «الصعايدة» جزء لا ينفصل عن الوطن، وقلبه النابض الحالم بمستقبل أفضل، اهمالهم جريمة ضد الانسانية ولابد أن ندرك جميعاً أن الحرب ضد الاهمال والفساد والفقر لا تقل خطورة عن مواجهة الارهاب، وأن الشعب مل ضمير الحكومة الغائب، ولم يعد يصدق عبارات كله تمام، ولن يقبل بعد ثورتين عظيمتين إلا بمحاسبة المقصرين، فمن حقنا جميعا أن نعيش حياة كريمة تحترم انسانيتنا الضائعة، وألا نكون أرخص ما في الوطن». Sir_omran@ yahoo.com