أعادت احتجاجات أبناء قنا الأخيرة علي المحافظ الجديد الذي اختير لمحافظتهم الصعيد مرة أخري إلي قلب الحوار العام في مصر، بعد أن ظن كثيرون وفي مقدمتهم 'الصعايدة' أنه اختفي كالعادة وراء الاهتمامات المركزية المرتبطة دوما بعاصمة البلاد وما يجري فيها من أحداث كبيرة كانت أو صغيرة، وبدا لكثيرين أيضا في مقدمتهم 'الصعايدة' أن هذه الاحتجاجات هي الفرصة المناسبة لإعادة الاهتمام إلي جنوب البلاد بشقيه الأقصي والأدني، وما يعانيه أهله من مشكلات وهموم تثقل كواهلهم منذ عقود طويلة من الزمن في العهد الجديد الذي دخلته مصر بعد ثورة شعبها العظيمة في الخامس والعشرين من يناير. وأول ملامح الاهتمام كما يراها أبناء الصعيد من جانب أشقائهم في الشمال وبخاصة في عاصمة البلاد ومن يديرها من نخب سياسية وإعلامية وأمنية وبيروقراطية، هو أن يعرفوا ولو بعضا من حقيقة الأوضاع في الصعيد وتركيبته الاجتماعية والثقافية المتميزة قليلا عما هو سائد في مناطق أخري من مصر، والمتنوعة في نفس الوقت ما بين منطقة وأخري بداخل الصعيد نفسه، إعادة اكتشاف الصعيد وفهمه عن قرب وبدقة هو المدخل الوحيد الذي يراه كثير من 'الصعايدة'، ومعهم عديد من الكتاب والباحثين، لهذا الاهتمام والذي سيفتح الباب الأوسع لاقتراح حلول حقيقية وواقعية لمشكلات الصعيد وأزماته المزمنة، فتلك المنطقة الممتدة جغرافيا علي نحو ثلثي وادي النيل والمسكونة بنحو ثلث سكان البلاد لا تزال تمثل لكثيرين - منهم بعض أبنائها - مجهولا لا يعرفون بدقة ملامحه الحقيقية، وربما تكون مشكلات الصعيد المتراكمة والمتعددة هي الملمح الظاهر الأكثر بروزا من تلك الملامح الغائمة، بما يعطي الانطباع بأن الصعيد يعادل دوما المشكلات والأزمات، إلا أن المؤشرات والأرقام والحقائق الميدانية تؤكد أن مشكلات الصعيد وأزماته علي تعددها وتراكمها، ليست في جوهرها سوي النسخة 'الجنوبية' من دفتر المشكلات والأزمات الذي ناءت مصر كلها بحمله خلال العقود الثلاثة الأخيرة التي جثم فيها النظام السابق علي كاهل البلاد وروحها، ولأن تلك النسخة 'جنوبية' فقد كان طبيعيا أن تكون ككل نسخ 'الجنوب' من دفاتر مشكلات وأزمات دول العالم متخمة الصفحات وأكثر سوادا وثقلا من النسخ 'الشمالية'. وزيادة ثقل مشكلات وأزمات الصعيد وسواد لونها الأكثر ظهورا للعيان ليس مسئولية عهد بعينه ولا حكومة بذاتها، بالرغم من مسئولية النظام السابق عن الكثير منها، بقدر ما هي حصاد لإهمال - وأحيانا تجاهل - لتلك البقعة من أرض الوطن ساهمت فيه كل العهود وجميع الحكومات كل بما تيسر له، وتلك المسئولية الموزعة بين كل ما تعاقب علي مصر من عهود وحكومات في عصرها الحديث لم تكن فقط مجسدة في إهمال - أو تجاهل - نصيب الصعيد الطبيعي في الخدمات والسلع والوظائف والمرافق والبني التحتية، بل أكثر من ذلك وأهم في التعرف عن قرب عليه وعلي التفاصيل التي تجعل منه في الوعي الرسمي والشعبي المصري جزءا 'معلوما' من الوطن وليس شيئا 'مجهولا' تختفي ملامحه الحقيقية وراء تصورات شائعة نمطية كونتها عنه 'النكت' وذكريات موظفي الدولة 'المنفيين' إليه والأفلام والمسلسلات التي يبحث 'الصعايدة' فيها عن أنفسهم وعن صعيدهم فلا يجدون شيئا يعرفونه، ولأن المعرفة الحقيقية هي بداية الحل لكل المشكلات والأزمات، فقد كان طبيعيا وقد انسحبت أضواؤها تدريجيا عن الصعيد أن تتراكم أزماته ومشكلاته ويتعثر حلها وينوء أهله الطيبون بحملها. ولأن الأسهل - والمعتاد - هو تحميل العهود والحكومات مسئولية غياب المعرفة الدقيقة بالصعيد، ومن ثم تزايد صعوبة حل مشكلاته، فقد بدأنا به، أما الأكثر صعوبة في توزيع المسئوليات فهو ما يتعلق بنا نحن، أي طوائف الكتاب والباحثين والصحفيين والمثقفين عامة والمؤسسات المعبرة عن كل هؤلاء، حيث لا تقل مسئوليتنا كثيرا عن تلك التي تتحملها الحكومات والعهود المختلفة وآخرها النظام الساقط. فلقد غاب الصعيد طويلا - وربما دائما - عن جداول أعمالنا ولم نخصص له من وقتنا ومواردنا البشرية والعلمية ما يتناسب مع وزنه وموقعه ودوره في ماضي هذا البلد وحاضره وما نتمناه له من مستقبل، وإذا كنا قد نسينا - أو نحاول ذلك - فيكفي أن نتذكر معا أن إجمالي ما كتبناه من أبحاث وكتب ومقالات وما أذعناه من برامج حوارية وعقدناه من مؤتمرات وندوات عن ذلك الصعيد في عقود ثلاثة يعادل أحيانا ما نشرناه في عام واحد عن قضايا الأقليات والمرأة والديمقراطية وغيرها من قضايا كلها مهمة، وهي أهمية ما كان يجب أن تطغي لهذا الحد علي أهمية معرفتنا وفهمنا لجزء أصيل وحبيب من وطننا هو الصعيد، لقد أضحي الصعيد شيئا فشيئا بقعة داكنة مجهولة من جسد وطننا لأن إهمالنا نحن وكل الحكومات والعهود قد تضافر عليه وأزاحه تدريجيا بعيدا عن 'العين' فأضحي كما يقول المثل الشعبي المصري بعيدا عن 'القلب'، ومن ثم بعيدا عن الاهتمام والرعاية بلغة المثقفين والمسئولين. وعندما يأتي ذكر الصعيد المجهول لكثير من أبناء مصر في خضم ثورة يناير العظيمة، فإن ذكريات بعيدة تطوف بأذهان أهله عن أحوالهم في ظل ثورة أخري عرفتها مصر قبل ستين عاما، هي ثورة يوليو 1952، حيث يتمني كثيرون منهم اليوم أن يلحقهم في ظل ثورتهم الحالية ما لحقهم في ظل الثورة السابقة، فقد كان من أبرز إنجازات هذه الثورة هي إخراجه من تلك الزاوية المظلمة التي ما كاد يخطو خطواته الأولي خارجها حتي أعاده إليها هؤلاء الذين انقلبوا عليها ووضعوا الوطن كله في ظلمة دامسة والصعيد في أكثر مناطقها عتمة طوال العقود الأربعة الماضية، فحين تكون من أبناء الجنوب الذي كان دوما - قبل ثورة يوليو ثم بعدها خلال الأعوام الأربعين الماضية - بعيدا عن العين ومن ثم عن القلب وكان منفي للعباد، فسوف تعرف كم هي الأشياء الكثيرة الصغيرة - الكبيرة التي غيرتها الثورة السابقة في الصعيد والتي ظهرت جلية في تغييرات اقتصادية واجتماعية هائلة، وتجلت واضحة في لمعات عيون أبنائه المفعمة بالأمل في غد مأمون وصاعد، وفي مسيرة الأمل التي كان الوطن كله، وخاصة فقرائه وفي مقدمتهم 'الصعايدة'، ينخرطون فيها بحماس. إن أبناء الصعيد اليوم وفي ظل ثورة يناير العظيمة يعلمون جيدا أن سنوات التغيير الكبير القادمة في واقع مصرنا بأكملها وصعيدنا كجزء أصيل منها لن تكون كلها وردية ولا سهلة، فالمصاعب والانتكاسات والعقبات متوقعة ومنطقية، ولكن المصريين جميعا ومعهم في ذلك كل 'الصعايدة' متأكدون من أنهم سينتصرون في النهاية وسيبنون المستقبل الذي يستحقونه هم وأبناؤهم.. ولكي ننتصر جميعا - نحن أبناء مصر الموحدين المتحدين بغض النظر عن ديانتنا ومنطقتنا وطبقتنا - في معركة استكمال ثورتنا العظيمة، فإن معرفتنا ببعضنا يجب أن تتعمق وفهمنا لتنوعاتنا يجب أن يتسع وتواصلنا معا يجب يدوم، فالإنسان عدو ما يجهل.. والصعيد الذي عاني طويلا - عدا فترات قصيرة - خلال العقود الأخيرة من الجهل به والإهمال له يستحق اليوم من أشقائه أبناء مصر الثورة قدرا أكبر من الاهتمام به والاقتراب منه حتي نذوب جميعا تدريجيا في ذلك الوعاء الحديث الأكبر الذي نطمح ونسعي لبنائه، أي دولة الحرية والمواطنة والتوافق الوطني العادلة.