ما من شك أن الإصلاح القضائى أضحى غاية ترنو إليها أعين جميع المهتمين بالشأن القانونى أو المهمومين بشئون العدالة. فحديثى اليوم ليس عن الإصلاح القضائى بمعناه الضيق المنحصر حول استقلال القضاء على اختلاف معنى هذا الاستقلال وحدوده وكيفية المطالبة به والمنافحة عنه. إلا أن حديثى اليوم لن يتعلق بهذه المسألة بقدرما يتصل بالاصلاح القضائى من جوانب أخرى تتصل بعملية التشريع ذاتها. ووجوب مراجعة جميع التشريعات ذات الصلة بالعملية القضائية مراجعة شاملة وواقعية تسهم فى بلوغ غاية الاصلاح المنشود وأول ما يستوقف النظر أننا بتنا نعانى مما يمكن تسميته مجازاً بعشوائية التشريع أو بالتشريعات الانفعالية، فما إن تطرأ مشكلة أو يسلط الضوء إعلامياً على مشكلة معينة إلا ونجد تشريعاً انفعالياً قد صدر لمجابهة هذه المشكلة. ومأساة هذا النوع من التشريعات أن ما يسفر عنه من نتائج فى التطبيق العملي أكثر خطورة من الوضع القائم قبل إصدار هذا التشريع فعلى سبيل المثال فإن بعض الممارسات القضائية التى حادت عن فلسفة الحبس الاحتياطى كإجراء احترازى يصار اليه على سبيل الاستثناء ولأسباب محددة دفعت المشرع الى التدخل بتعديل قانون الاجراءات الجنائية بوضع سقف زمنى للحبس الاحتياطى بحيث يتعين بقوة القانون الافراج عن المتهم بعده فوراً. ورغم أننى كنت واحداً من المنادين بهذا التعديل والمدافعين عن مبرراته وعلى رأسها ضمانات المتهم وأصل البراءة المقرر بالمادة «67» من الدستور الا أن الواقع العملىوبعد هذا التعديل قد كشف عن نتائج غير مرضية حيث ارتفعت بشكل ملحوظ نسبة الأحكام الغيابية الصادرة فى مواد الجنايات خاصة الصادرة بالإعدام أو بالسجن المؤبد بحسبان أن الذين استفادوا من نصوص الحبس الاحتياطى الجديدة وأخلى سبيلهم هربوا ولم يعودوا الى المحاكمة. وإزاء تبين المحاكم لهذا الوضع الشاذ فقد دفع ذلك بعض محاكم الجنايات الى ان تغض الطرف عن إخلاء سبيل المتهمين المحبوسين احتياطياً على ذمة قضايا منظورة أمامها ولو تجاوزوا مدة الحبس الاحتياطى. وإزاء هذه الإشكالية وقبل ان يمر عام علي التشريع الجديد تدخل المشرع مجدداً بتعديل على النص المعدل ليرفع من سقف الحبس الاحتياطى فى الجنايات الخطيرة المعاقب عليها بالسجن المؤبد أو الاعدام الى خمس سنوات بدلاً من سنتين. وهناك العديد من الأمثلة الفجة لتشريعات عدلت قبل ان تدخل حيز النفاذ ومن أشهرها قانون التجارة رقم «17» لسنة 1999 والذى لحقته تعديلات متعددة ومتلاحقة فيما يتعلق بالمواد الخاصة بالشيك والتى لم تدخل حيز النفاذ الا فى 1/10/2005 رغم أن القانون قد صدر فى 17/5/1999. والسبب الواضح فى هذا التخبط التشريعى الذى نعيشه هو حالة الانفعال اللحظى بالمشكلة أو الانفراد بإصدار تشريعات دون الاستماع الوافى لأصحاب الرأى من ذوى الخبرة العملية والذين لديهم من الإلمام بالواقع العملى وبأسباب المشكلات والبدائل المختلفة لحلها ما قد يسهم فى إنارة الطريق أمام أصحاب القرار عند اتخاذه. ذلك أن التشريع فن لابد ان يستلهم فيه الواقع الذى يشرع من أجله فإذا أتى التشريع منفصلاً ومنفصماً عن هذا الواقع فإن ما يفرزه من مشكلات يكون أكثر خطورة عن الوضع القائم قبله. ولذلك فإننى أدعو القائمين على هذا الأمر الى عملية مراجعة شاملة وليست جزئية تستجمع حواراً يضم جميع العاملين فى الحقل القانونى من قضاة ومحامين وأساتذة جامعات لمراجعة حزمة التشريعات المتعلقة بصميم العملية القضائية مراجعة تستلهم الواقع من جهة وتستشرف المستقبل من جهة أخرى حتى لا نجد تشريعاً يعدل قبل ان يطبق أو تشريعاً يكشف تطبيقه عن مشكلات أكبر من تلك التى كانت قبله. خاصة أن هناك من التشريعات التى اصيبت بحالة من الترهل الذى لا يجدى معه ترقيع أو إصلاح جزئى وإنما تحتاج الى استحداث منظومات متكاملة من التشريعات.. التى توائم العصر..وما طرأ من مشاكل معاصرة. فلا يتصور على سبيل المثال ان قانون الاجراءات الجنائية المصرى الصادر عام 1950 يظل معمولاً به حتى الآن رغم انه منقول عن قانون تحقيق الجنايات الفرنسى والذى ألغى عام 1954 واستحدث بدلاً منه قانون الاجراءات الجنائية الفرنسى الحالى والذى لحقته تعديلات كثيرة بما يعنيه ذلك من أننا نقلنا قانون الاجراءات عن قانون كان يلفظ أنفاسه الأخيرة ومازلنا نسير فى ركابه ونتمسك بكثير من نصوصه رغم ان بعض هذه النصوص تتحدث عن أنظمة غيرمطبقة وكلما جدت لنا مشكلة فزعنا الى عملية ترقيع لتلك النصوص وكأننا نعالج عرضاً دون أن نواجه المرض.. ونقف على أسباب.. وصولاً الى العلاج السليم، لكن من قبيل الانصاف ايضاً علينا ان نقرر بأن المسألة أدق من مجرد إصدار تشريع وانما الأهم هو ان يتواءم هذا التشريع مع الواقع وان يأتى ملبياً لاحتاجاته، وبصراحة شديدة فقد بتنا فى حاجة الى مصفاة تشريعية تغربل هذا الزخم من التشريعات الذى لا مثيل له فى أى دولة فى العالم بحيث لا يبقى لدينا سوى المفيد والمجدى من تلك التشريعات. فلك ان تتخيل ان هناك بعض المسائل ينتظمها أكثر من تشريع بل ان المأساة المضحكة ان القائمين على أمر تنفيذ هذه التشريعات والمفترض فيهم العلم بها يجهلون الكثير منها.. ومنها على سبيل المثال بعض اللوائح التنفيذية أو القرارات الوزارية التى تصدر وتسقط من ديباجتها بعض القوانين المفترض انها صدرت تنفيذاً لها. وأنا ألتمس العذر لهؤلاء لأنه لا يوجد فى العالم بأسره أمثلة لهذا الكم الهائل من آلاف التشريعات والتى من الممكن بل ينبغى أن تختزل الى بضع مئات فحسب. أعلم أن الأمر ليس هيناً ويحتاج الى جهد من جميع المتخصصين فى الشأن القانونى ولكن المسألة تحتاج الى بداية وكل طريق يبدأ بخطوة وطريق الاصلاح القضائى وحديثه ينبغى ان يبدأ بإصلاح تشريعى له جوانب متعددة. وسوف أحاول فى مقالات مقبلة إن شاء الله تعالى أن أؤدى وجبى كرجل قانون متمرس ومتخصص وأن أسهم ولو بالاشارة الى بعض تلك الجوانب لعل وعسى أن يكون فى كلمة منها ما يفيد فى بلوغ هذا الاصلاح المنشود. «وللحديث بقية» سكرتير عام حزب الوفد