في العيد الأربعين لنصر أكتوبر، كرمت الدولة المصرية اسماً واحداً من أبرز قادة العسكرية المصرية وهو الفريق أول محمد فوزي. لم يشارك الرجل في معارك أكتوبر لكنه كان بالقطع أحد كبار صناع النصر العظيم. كان الفريق فوزي أشهر من تولى إدارة الكلية الحربية في مصر، وعلى يديه تخرج ضباط مصر لسنوات طويلة، وعندما غادرها لمناصب أخرى محافظاً على استقلاله وعلى عسكريته الصارمة بعيداً عن صراعات السياسة حتى وقعت الهزيمة في 1967. بعد عودة الزعيم الراحل عبدالناصر عن قرار التنحي الذي رفضته الجماهير التي خرجت في تظاهرات حاشدة في 9و10 يونيو، كان أول إجراء اتخذه هو تعيين قيادة جديدة لجيش مصر. وفي 11 يونيو كان الفريق فوزي أمام عبدالناصر كوزير للدفاع وقائد عام للقوات المسلحة، وكان يتلقى التكليفات بالمهام العاجلة، وأولها وأهمها البدء في إعداد الجيش لحرب الثأر والتحرير. يومها حدد عبدالناصر التوقيت بثلاث سنوات. وفي منتصف أغسطس 1970 كان الفريق فوزي يجلس أمام عبدالناصر ويحصل على تصديق الزعيم على خطة "جرانيت" لتحرير سيناء. وتحدد موعد التنفيذ في بداية عام 1971 وبعد انتهاء إيقاف النار الذي تم وفق مبادرة روجرز التي قبلتها مصر بهدف استكمال بناء حائط الصواريخ وتحريك المنصات إلى شاطئ القناة كخطوة ضرورية لحماية القوات المصرية عند العبور. لكن رحيل عبدالناصر في سبتمبر 1970 جعل الأحداث تذهب في اتجاهات أخرى، وأخر الحرب لما يقرب من ثلاث سنوات. وهذه قصة أخرى!! بين تولي فوزي لموقع القيادة ومعه الفريق عبدالمنعم رياض رئيساً للأركان عقب هزيمة يونيو 67، وتصديق عبدالناصر على خطة حرب التحرير قبل رحيله.. كانت هناك ملحمة رائعة وحرب هي الأطول والأشق في حربنا مع العدو الإسرائيلي، وثلاث سنوات بدأت فيها عملية إعادة بناء جيش مصر من الصفر ليكون جاهزاً للعبور في هذا الزمن القياسي. بعد أسابيع فقط خاض الجيش معركة رأس العش وألحق الهزيمة بالإسرائيليين، وبعدها تعددت المعارك، وانتقل الجيش من مرحلة الصمود والدفاع النشط إلى حرب الاستنزاف العظيمة التي ألحقت بالعدو أفدح الخسائر في تاريخه، وأعدت جيش مصر ليخوض حرب التحرير بعد ذلك ويحقق نصر أكتوبر العظيم. صفحات البطولة في هذه السنوات الصعبة تحتاج لآلاف المجلدات، والجهد الذي تم بذله كان فوق طاقة البشر. كان الجميع يؤمنون بأن العدو نال نصراً لا يستحقه، وبأن الثأر منه أمر لا يمكن التهاون فيه. وكان أخشى ما يخشون أن يكون هناك اتفاق على تسوية للموقف قبل أن يثأروا من الهزيمة ويحققوا النصر الذي يعيد الأرض والكرامة. بعد التصديق على خطة التحرير انطلقت القوات في استعداداتها الأخيرة، ثم جاءت صدمة رحيل عبدالناصر، وتولي السادات الحكم وتم تمديد وقف إطلاق النار، ثم بدأت الخلافات التي انتهت بالصدام في مايو. كان جوهر الخلاف كما قال لي بعد ذلك الفريق فوزي وعدد من رفاقه في أحداث مايو الحرب. كانت تقديرات الفريق فوزي يومها إن علينا أن نخوض الحرب في ربيع عام 1971 وأن أي تأخير لن يكون في صالحنا لأن موازين القوى سوف تتغير بعد وصول صفقات الأسلحة الأميركية لإسرائيل وفي مقدمتها صفقات الطائرات الحربية. بينما كان السادات قد بدأ اتصالات سرية مع الأميركان على أمل التوصل لتسوية سلمية. ولم يدرك أنه لا بديل عن الحرب إلا بعد ذلك بما يقرب من ثلاث سنوات، وعندها فقط كان قرار الحرب وكان العبور العظيم. في أحداث مايو استقال فوزي مع باقي القيادات السياسية التي اختلفت مع السادات. وحوكم فوزي مع المجموعة وكاد يحكم عليه بالإعدام لولا رفض الجيش لأن يعدم قائده لأنه استقال، وسجن فوزي وقضي فترة عقوبته وخرج صلباً كعادته لا يعرف الالتواء أو المواربة في التعبير عن آرائه من كل أحداث الأمة. قبل سنوات كنت معه في إحدى المحافظات حيث ذهبنا لدعم أحد الأصدقاء في معركة انتخابية وكان معنا عدد كبير من الشخصيات السياسية. فوجئنا هناك بحشود من القرى المجاورة، وما أن رأوا الفريق فوزي حتى حملوه على الأعناق. كان الرجل بعيداً عن الأضواء لسنوات وكنت أظن أن صرامته الشديدة تبعده عن الحضور الجماهيري. اكتشفت أن العديد من الحاضرين كانوا جنوداً في جيش يقوده فوزي وحكى لي بعضهم كيف تسلموا منه أوسمة شجاعتهم. على مدى سنوات كنا نطالب بإعادة الاعتبار للرجل، وبأن ينال التكريم الذي يستحقه. لم يفعلها مبارك على مدى سنوات حكمه رغم احترامه له كقائد عسكري عمل تحت إمرته. لكنه سار في جنازته عند رحيله قبل سنوات. وأيضاً لم يفعلها المجلس العسكري بعد ثورة يناير وسط حالة الارتباك التي كان يعيشها، ولم يكن ممكناً بالطبع أن يفعلها المعزول الذي كرّم الفريق الشاذلي ليستغل ذلك بالمتاجرة باسمه. بعد 30 يونيو فقط، وفي العيد الأربعين لنصر أكتوبر، تم تكريم اسم الفريق فوزي. بمنحه وسام الجمهورية ووسام النجمة العسكرية. لم يكن الأمر فقط رد اعتبار لهذا القائد العسكري الكبير الذي لم يكن غيره قادراً على القيام بالمهمة الصعبة بعد هزيمة يونيو، والذي استطاع أن يعيد البناء ويستعيد الثقة ويخوض المعارك ويجهز الجيش للمهمة الأساسية لتحرير الأرض ورد الكرامة. لم يكن الأمر فقط رد "الاعتبار الرجل تكريماً" لدوره، بل كان أيضاً تقديراً مستحقاً لحرب الاستنزاف التي خاضها جيش مصر في أصعب الظروف، والتي كبدت إسرائيل أفدح الخسائر، وكانت الإعداد الحقيقي لمعركة العبور من الهزيمة للنصر العظيم. لم تتعرض هذه الحرب للتجاهل فقط، بل شهدنا قبل سنوات موجة من الهجوم المستفز ظناً من البعض بأن هذا يساهم في حملة الهجوم على عبدالناصر التي لم تتوقف يوماً. ولم تتوقف هذه الحملة إلا بعد أن أعلن الجيش أنه سيفضح الحملة ومن وراءها، ولن يسمح بإهدار تضحيات هائلة شارك فيها الشعب والجيش في أصعب الظروف. الآن يتم تكريم اسم الفريق فوزي، ويتم معه تكريم جهود الرجال الذين وقفوا في ساعة الانكسار يبشرون بالنصر ويتوعدون بالثأر ويبذلون أغلى التضحيات ليبنوا الجيش الذي عبر بمصر من الهزيمة إلى الانتصار في أكتوبر العظيم. نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية