سأل أحدهم شيخه الجنيد القواريرى عن حاله اليوم فقال له: «إنما اليوم إن عَقِلتَ ضيفٌ نَزَلَ بك وهو مُرتحل عَنك، فإن أحسنتَ نُزَلَه وقِراه، شهد لك وأثنى عليك بذلك وصدق فيك، وإن أسأت ضِيافتَه ولم تُحْسِن قراه، شهد عليك.. فلا تَبِع اليوم ولا تعد له بغير ثمنه. واحذر الحسرة عند نزول السكرة فإن الموت آتٍ، وقد مات قبلك من مات.. فالطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول». إنه أبو القاسم الجنيد بن محمد الخراز القواريري، من أعلام التصوف وأحد فرسان العشق الإلهى. يعود مسقط رأسه إلى نهاوند في همدان (مدينة آذرية)، أما مولده ومنشأه فكانا في بغداد. صحب جماعة من المشايخ، واشتهر بصحبة خاله السري، والحارث المحاسبي. درس الجنيد الفقه على أبي ثور أحد تلامذة الإمام الشافعي، وكان يفتي في حلقته بحضرته، وهو ابن عشرين سنة. والجنيد هو ابن أخت القطب الصوفي المشهور السري السقطي. تعلم الجنيد وتذوّق التصوّف من خاله سَرِىّ، فها هو يقول: «كنت بين يدي سري ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر؛ فقال لي: «يا غلام، ما الشكر» فقلت: «الشكر ألا تعصي الله بنعمه». فقال لي: «أخشى أن يكون حظك من الله لسانك!» قال الجنيد: «فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها لي السري». ولم يكن الجنيد يستنكف قط أن يظهر تواضعه وزهده بين من عرفوا حسبه ونسبه، بل إنه حرص على كسر الكبر في نفسه، وتطويعها لتخضع للخالق العظيم. وقد أبدى أحد من حوله ذات يوم عجبه من الجنيد حين رآه يأخذ في يده سبحة، على رغم نسبه، فقال لمن تعجب منه: «طريق وصلت به إلى ربي لا أفارقه»، إذ كان يعتبر السبحة أحد طرق الوصول إلى الوجد. حجّ الجنيد ثلاثين مرة، تقرباً إلى الله، وكانت له في الحج أحوال العاشقين، لكنه لم يخرج عن حدود ما يفرضه الشرع في أداء تلك الفريضة، فالجنيد كان يؤمن بالجمع بين الحقيقة والشريعة، ولا يرى أي فصل بينهما، بل إنه اشترط على نور الحقيقة أن يكون موصولاً بنور الشرع الإلهي، وكان محباً عاشقاً لله ورسوله. وبين هواجس النفس ووساوس الشيطان فرق كبير يدركه الجنيد بعمق فيقول: «النفس إذا طالبتك بشيء ألّحت فلا تزال تعاودك ولو بعد حين، حتى تصل إلى مرادها، ويحصل مقصودها، ما لم تغلبها بصدق المجاهدة. وأما الشيطان إذا دعاك إلى زلة فخالفته، فإنه ينتقل بوسوسته إلى زلة أخرى، لأن جميع المخالفات عنده سواء، وإنما يريد أن يكون داعياً أبداً إلى زلة ما، ولا غرض له في تخصيص زلة دون زلة». توفي الجنيد في بغداد سنة 297 ه، وتم دفنه في بغداد. وقبل موته ترك عظة عظيمة حول الموت لا يمكن نسيانها، وقد حوتها نصيحته التي يقول فيها: «يا ابن آدم دينك دينك، نعوذ بالله من النار فإنها نار لا تنطفئ، وعذاب لا ينفد أبدًا، ونفس لا تموت، يا ابنَ آدم إنك موقوف بين يدي الله ربك ومرتهن لعملك فخذ مما في يديكَ لما بين يديك، عند الموت يأتيك الخبر، إنك مسؤول ولا تجد جواباً، إنك لا تزال بخير ما دمت واعظاً لنفسك محاسباً لها وإلا فلا تلومنّ إلا نفسك».