يدرك كل أهل السياسة أنه ليست هناك اتفاقيات أو معاهدات أو ارتباطات سياسية بين الدول يدوم سريانها والإعمال بها إلي الأبد!، بحكم أن هناك متغيرات وتقلبات سياسية تطرأ علي علاقات الدول تجعل إلغاء هذه الارتباطات الموثقة قابلة للتعديل أو الانسحاب منها وحتي إلغائها بالكامل! ، إذا نهضت شروط تسمح بذلك وتلقي التأييد الدولي، ومثل هذه الخطوات تجعل الدولة الراغبة في التعديل أو الإلغاء للاتفاقيات والمعاهدات التي سبق الالتزام بها من قبل تذهب إلي خطوات في سبيل ذلك حتي لو كان ذلك من طرف واحد، أو بالاتفاق بين الأطراف المعنية علي ذلك وتملك إقراره، وقد كان التزام مصر باتفاق توزيع الأنصبة من مياه النيل، والذي وقعته مصر مع السودان الموحد سابقاً عام 1959، وقد صمد العمل بهذا الاتفاق منذ هذا التاريخ دون حدوث ما يعترض سريان هذا الاتفاق، ولم يرد بخاطر المصريين والسودانيين طوال هذه الفترة ما سيجعل السودان الموحد سودانين أحدهما في الشمال وآخر في الجنوب!، بل ظل السودان الموحد يعالج قضية سعي جنوب السودان إلي الانفصال عن شماله علي أنها قضية «متمردين» لابد من كسر شوكتهم بالسلاح، وهو الأمر الذي جعل الحرب تظل مشتعلة بين حكومة السودان الموحد خلال عهود متعاقبة وبين جيش تحرير جنوب السودان، وهو الجيش الذي ظل يتلقي عوناً عسكرياً وأموالاً من القوي الدولية الكبري وبعض الدول الإفريقية المناوئة لنظم الحكم السودانية المختلفة، وبروز الدور الإسرائيلي الملحوظ في معاونة جيش تحرير جنوب السودان!، وكانت مصر خلال هذه الحرب الدائرة تركز علي علاقاتها بالسودان الموحد الرسمي دون أن تقيم وزناً أو اعتباراً للحقائق التي تتغير علي أرض الواقع بتأثير ما يحرزه جيش تحرير جنوب السودان من انتصارات جعلته يسيطر علي مساحات شاسعة من الأرض في الجنوب تخضع لإدارته خضوعاً كاملاً!، بل ظلت مصر تعتبر قضية الجنوب مشكلة متمردين تتكفل القوات المسلحة السودانية بهزيمتهم والقضاء عليهم ذات يوم!، ولكن التطورات الدولية جعلت هذا مجرد وهم خادع للنظام السوداني في الشمال ولمصر!، حتي استجدت مواقف كثيرة أسرعت دولياً بإجراء استفتاء عام رعته الأممالمتحدة، وكان محوره الرئيسي رغبة الجنوبيين في الاستقلال عن السودان بدولة مستقلة ذات سيادة، ثم الدخول بعد ذلك في مفاوضات بين الشمال والجنوب حول تقسيمات في الثروات الطبيعية وترسيم الحدود الجغرافية بين الدولتين، ومنذ إعلان قيام دولة الجنوب الوليدة تثور نزاعات بين الحين والحين عندما تنشأ بعض المشاكل المتعلقة بالثروات الطبيعية، خاصة البترول الذي تنطوي عليه أراضي دولة الجنوب، والذي استقرت مصفاته في «بانيثو» من أراضي الشمال. ولكن عاملاً مقلقاً لمصر والسودان الشمالي قد طرأ مؤخراً علي موقف تقسيم أنصبة مياه النيل!، فقد التقت إرادة ست دول من دول حوض النيل - بزعامة أثيوبيا علي اتفاق تعاون بينها بشأن تعديل أنصبة مصر والسودان الشمالي من المياه!، وبات الاتفاق القديم بين الدولتين في عام 1959 محل اعتراض دولة جنوب السودان الوليدة!، وباعتبار أن هذا الاتفاق لم يعد ملزماً للجنوب بعد أن أصبح دولة مستقلة، والتي رأت أن اللحاق بركب اتفاقات الدول الست أجدي لها من الدوران في فلك الاتفاق الثنائي القديم! وهو ما عبر عنه صراحة وزير المياه والري في حكومة دولة الجنوب!، إذ قال «إن بلاده لا تعترف باتفاقية 1959»!، وأكثر من ذلك أنه رأي أن الأفضل أن تنضم مصر والسودان إلي اتفاقية التعاون بين هذه الدول الست لمناقشة أفضل الطرق لاستغلال مصادر المياه، وقد لا تكون في ذلك غرابة، لكن الغريب حقاً ألا يكون لدي مصر خططها في التفاوض الذي لا مفر منه مع دول حوض النيل الست التي انضمت لها دولة السودان الجنوبي!، بل انصب اهتمام مصر علي التعاون مع السودان الجنوبي في مشروعات مقاولات وتعليم وصحة أثناء زيارة رئيس الوزراء المصري د. هشام قنديل مؤخراً لجنوب السودان!، والتأخير في هذا التفاوض المصري المطلوب ينذر بأن نصيب مصر في مياه النيل قد أصبح في خطر!