شهدت الساحة السياسية في مصر في الآونة الأخيرة العديد من الظواهر السياسية غير المألوفة والتي يمكن أن يترتب عليها تداعيات خطيرة إذا لم يتم تداركها ووضع الحلول المناسبة لها وذلك لما تمثله من تهديد للدولة المصرية ومؤسساتها وأجهزتها من جانب، فضلا عما تمثله من احتقان سياسي وصراعات غير مألوفة في الشارع المصري. ولعل من أهم هذه الظواهر الغريبة عن مصر حدوث صراع بين مؤسسات الدولة مثل الصراع الذي حدث بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية ممثلة في المحكمة الدستورية العليا، وارتبط بذلك حصار المحكمة الدستورية العليا ومنع قضاتها من دخول المحكمة وأداء أعمالهم في ظاهرة لم تعرفها مصر منذ قرابة ستة عقود منذ الاعتداء على مجلس الدولة في 1954، ومما يزيد الأمور غرابة عدم اتخاذ السلطات المعنية الإجراءات الكفيلة برفع هذا الحصار ومحاسبة المسئولين عنه. كما حدثت أشكال أخرى من الحصار والعدوان على المؤسسات المختلفة في الدولة مثل حصار القصر الرئاسي وإحراق بعض مقار الأحزاب السياسية كبعض مقار حزب الحرية والعدالة ومحاولة الإعتداء على مقر حزب الوفد وحزب غد الثورة، وحرق مقار بعض الصحف كصحيفة الوطن، فضلا عن حصار بعض أقسام الشرطة. وشهد الشارع المصري أيضا ظهور بعض الجماعات التي تعمل بطريقة شبه منظمة وقد تكون مسلحة وتلجأ إلى الاعتداء على المنشآت أو الأفراد وعلى الممتلكات العامة أو الخاصة، ومن ذلك على سبيل المثال إحراق المجمع العلمي ومقر الاتحاد المصري لكرة القدم ونادي ضباط الشرطة، ويعكس ذلك ارتفاعا ملحوظا في درجة العنف السياسي في الشارع المصري، ويعبر هذا العنف عن نفسه بمؤشرات مختلفة مثل أعداد القتلى والجرحى والمصابين من خلال المجابهات التي تحدث بين الجمهور والأمن، تلك المجابهات التي أصبحت تعبر عن ظاهرة متكررة سواء في العاصمة أو عدد من المحافظات الأخرى، خصوصا محافظة بورسعيد وبعض محافظات الدلتا مثل الغربية والدقهلية وكفر الشيخ بالإضافة إلى الاسكندرية. ويمكن القول إن من أخطر وأغرب المستجدات التي تشهدها مصر هي محاولة تسييس ما يصدره القضاء من أحكام، فالقضاء له هيبته وشموخه سواء في مصر أو في أي دولة أخرى، وعندما تصدر أحكام القضاء فإن القاضي لا يحكمه فيها سوى صحيح القانون والأدلة والمستندات وضمير القاضي والذي لا يميل مع الهوى ويهدف إلى إقرار العدالة، وهو ما يجعل من القضاء الحصن والملاذ الأخير الذي يلجأ إليه الجميع واثقين في أحكامه وفي عدالته، ولكن بدأت تظهر في مصر في العامين الأخيرين ظاهرة غير مألوفة وهي الاعتراض على أحكام القضاء أو تنظيم مظاهرات ضد هذه الأحكام، ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى الاعتداء على المحاكم، وظهر هذا على سبيل المثال في محاكمة الرئيس السابق حيث تواجد الفريق المعارض والفريق المؤيد في شكل تظاهرات أمام المحكمة، وعبر ذلك عن نفسه مرة أخرى في شكل روابط مشجعي الأندية بالنسبة للأحكام الخاصة بالأحداث المأساوية لمباراة كرة القدم في بورسعيد. إن استمرارية هذه الظواهر والمستجدات في مصر يمكن أن تؤدي هذه الأوضاع وتزايد حدتها إلى انهيار المؤسسات ويهدد بقاء واستمرارية الدولة ذاتها، وللتغلب على هذه التداعيات السلبية يتطلب الأمر العلاج الشامل لمسببات هذه الأزمة وعدم الاقتصار فقط على المعالجة الأمنية والتي تضع الداخلية في مواجهة الشعب وتجعل المناخ مهيئا للاعتداء على الداخلية وتوليد الحلقة المفرغة من العنف والعنف المتبادل، فهذه الظواهر السلبية التي تشهدها البلاد لها أسبابها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولذلك فالعلاج الناجح لهذه الأزمات والظواهر يجب أن يكون حلا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعدم الاقتصار على الحل الأمني. ويتطلب الأمر لتحقيق العلاج الناجح لهذه القضايا و الحفاظ على هيبة الدولة واحترام مؤسساتها التأكيد المتواصل بالقول والفعل أن مؤسسات الدولة تعمل لمصلحة الشعب بأكمله، وأن هذه المؤسسات لا تدور في فلك فصيل أو حزب أو طرف بعينه وإنما تسعى إلى تحقيق المصلحة العامة، وإبعاد هذه المؤسسات وخصوصا المؤسسات ذات الأهمية الحيوية (الأمن والقضاء والجيش والخارجية) عن سيطرة أي فصيل بعينه فهي مؤسسات تسعى إلى تحقيق مصلحة الدولة المصرية والشعب المصري، وقد يكون من المفيد في هذا الصدد التوافق على استراتيجية تحقق المصلحة المصرية ولها استمرارية بغض النظر عن شخص رئيس الدولة أو شخص رئيس الوزراء أو الحزب الحاكم في لحظة معينة، بمعنى أنه يمكن أن يتغير شخص رئيس الدولة من انتخاب إلى آخر، كما يمكن أن يتغير شخص رئيس الوزراء من فترة إلى أخرى، كما قد يتغير الحزب الحاكم ولكن تبقى هذه الاستراتيجية المحققة للمصلحة العليا للوطن تعبر عن الاستمرارية في تنفيذ هذه المصالح، وتتحقق هذه الاستراتيجية البعيدة المدى من خلال سياسات قصيرة ومتوسطة المدى، ويتطلب الأمر في جميع الأحيان التخلص من الاستقطاب السياسي والاحتقان الذي يعاني منه الشارع المصري وأن توضع سياسات واضحة لتحقيق أهداف الثورة المصرية، والقصاص للشهداء وهو ما يتطلب تحديد الطرف الثالث الذي يتم تحميله كافة الممارسات والجرائم في خلال العامين السابقين، كما يتطلب الأمر أيضا تضافر الجهود السياسية والتعاون بين الجميع حكومة ومعارضة وشباب الثورة من أجل الخروج الآمن للوطن من آخر الأزمات التي يواجهها من فترة طويلة. أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة