أثار الإعلان الدستورى المؤقت الذى أصدره الرئيس مرسى خلافا بينه وبين المحكمة الدستورية جرى إخراجه من سياقه القانونى وتوظيفة فى الصراع الدائر حاليا فى مصر والذى يستهدف إسقاط الرئيس المنتخب فى إنتخابات شهد المراقبون بنزاهتها بزعم أن هذا الخلاف أسقط شرعيته ، مع إن مثل هذه الخلافات أمر معتاد ومألوف فى الدول الديمقراطية ، ولكن يبدو أن حداثة عهدنا بالديمقراطية هو الذي صور للبعض وللعجب أن منهم رجال قضاء ورجال قانون على أنه يمثل عدوانا على السلطة القضائية برمتها . ذلك أن الخلاف فى النظم الديمقراطية بين الرئيس المنتخب والمحكمة الدستورية أمر معتاد ومألوف ولا يثير قى تلك الدول مثل هذا الصخب الملتبس بالعنف ولا يوجب الدعوة الى عزل رئيس الدولة بسببه قبل إنتهاء مدة ولايته ، والسبب فى ذلك أن الشرعية فى النظم الديمقراطية تأتى من التعبير عن الإرادة الشعبية عبر صناديق الإنتخاب ، بحيث يمكن القول أن شرعية السلطتين التنفيذية والتشريعية تكتسب مباشرة من الشعب ، على حين أن سلطة المحكمة الدستورية هي سلطة مفوضة ، باعتبار أن إختيار قضاة المحكمة لا يتم من الشعب مباشرة وإنما من أشخاص منتخبين مباشرة من الشعب ، لذلك فإنه في هذه النظم يتقبلون بغير كثير من الترحيب من المحكمة الدستورية الغير منتخبة مباشرة من الشعب إلغاء القوانين والقرارات الصادرة من مؤسسات منتخبة مباشرة من الشعب وتستمد شرعيتها منه . لذا يضع أغلب فقهاء القانون الدستوري في أمريكا ، التي تعتبر واحدة من أهم الديمقراطيات في العالم ، شروطا ثلاثة يرون أنه يتعين على المحكمة الدستورية التقيد بها وهي تفصل في الدعاوي الدستورية المطروحة عليها هي 1 أنه إذا كانت قراءة القانون المطروح أمره على المحكمة توفر وجهتي نظر أحداهما يمكن أن تعتبره دستوريا والأخرى لا تعتبره كذلك تعين الاخذ بوجهة النظر الأولى 2 وإذا كان القانون يتضمن في قسم منه نصوصا دستورية وآخرى غير دستورية تعين الإقتصار في الحكم بعدم الدستورية على النصوص الاخيرة وحدها 3 الإقتصار في الحكم بعدم الدستورية على الحالات التي تمثل إنتهاكا واضحا لحقوق الأفراد وحرياتهم ، وإن كان القضاء الدستوري في أمريكا بعد 11/9 يميل إلى تغليب حق الوطن في الأمن على حقوق المواطن فيه في حالة تعارضهما . لهذا يمكن القول بان النظام الديمقراطي يحمل في تكوينه بذور الخلاف الدائم بين السلطتين المنتخبتين مباشرة من الشعب وبين المحكمة الدستورية وهو خلاف مألوف لا يصلح بذاته أن يكون سببا من أسباب الشغب وتوظيفه سياسيا كذريعة لإسقاط النظام . فهو ليس خلافا سياسيا وإنما هو خلاف قانوني بين سلطتين تستمدان شرعيتهما مباشرة من الشعب وترى إنه لذلك يجب أن تكون لهما اليد العليا في تقرير ما هو الأصلح للشعب وبين سلطة رغم إنها تستمد شرعيتها من تفويض شعبي لكنها ترى إنها بحكم وظيفتها هي من يجب أن تقرر ما هو الأصلح للشعب وفق أحكام الدستور . وبالمقابل فإنه يمكن القول أنه من غير المألوف وجود مثل هذه الخلافات في النظم الديكتاتورية ، إذ عادة ما تمارس المحاكم الدستورية في تلك النظم رقابة ذاتية على أحكامها التي يكون من شأنها التأثير على سلطات الديكتاتور ونظامه ويمكن أن تؤدي إلى الاصطدام به وهي تلجأ من أجل تجنب هذا الصدام إلى بعض الحيل القانونية كالتأجيل لأجال بعيدة إلى أن تنتهي حساسية الأمر المطروح عليها ، أو عدم الحكم في موضوع الدعوى الدستورية إستنادا إلى أسباب شكلية . الخلاف إذن بين رئيس الدولة والمحكمة الدستورية في النظم الديمقراطية أمر عادي ومألوف ويرجع إلى أن رئيس الدولة يرى أنه مفوض مباشرة من الشعب في إتخاذ كل ما يلزم للمحافظة على مصالحه ، وإنه لا يصح لمحكمة غير منتخبة من الشعب أن تقف في وجه هذه المصلحة من أجل تقريرات تراها السلطة التنفيذية أنها مجرد تقريرات نظرية تتعارض مع هذه المصلحة ، ولا تمس حريات الشعب ، على حين ترى المحكمة أن المنظومة الدستورية وحدة واحدة ما يمس منها حريات الناس وما لا يمسها ، وأن المحافظة على الشرعية هي المصلحة الأعلى والأولى بالرعاية . وكان أخر صور هذا الخلاف في أمريكا ما ظهر على العلن في خطاب الرئيس أوباما في حفل توليه الرئاسة لفترة ثانية الذي انتقد فيه بعبارات لازعة قضاة المحكمة الدستورية الجالسون خلفه بكامل عددهم قائلا " إنه لن يسمح لمجموعة من الأشخاص يخضعون في قضائهم لمجموعات الضغط السياسي بأن تفشل برنامجه الاصلاحي " ، وكان بوسع المشاهد مشاهدة تعبيرات الضيق التي بدت واضحة على وجوه هؤلاء القضاة وهم يستمعون إلى خطابه . هذا هو آخر خلاف بين رئيس أمريكي والمحكمة الدستورية الأمريكية ، أما أول خلاف بينهما فكان عندما عزل " جورج واشنطون " ، بعد إعلان وثيقة إستقلال أمريكا ، جميع قضاة المحكمة الدستورية التسعة دفعة واحدة ليحل محلهم تسعة أخرون لم يسبق لأي منهم ممارسة عمله في المحكمة في ظل النظام السابق على الإستقلال . وبين أول خلاف بين رئيس أمريكي والمحكمة الدستورية الأمريكية وأخر خلاف بينهما جرت خلافات متعددة ، أهمها ما كان بين الرئيس " أبراهام لينكولن " وبين المحكمة الدستورية ، التي قضت بعدم دستورية القوانين التي كان الكونجرس قد أصدرها بحظر تجارة العبيد وتحسين أوضاعهم الإقتصادية والإجتماعية بدعوى إنها تمثل تعديا على حق الملكية الذي يقرره الدستور ، وقتها أعلن الرئيس " لينكولن " إنه لن يحترم هذه الأحكام ولن يلتزم بها ، لكن هذه الأحكام شجعت الجنوبيين على التمادي في موقفهم المناوىء للحكومة الفيدرالية في الشمال . ويرى بعض المؤرخين إنها كانت واحدة من الأسباب التي أدت إلى إشتعال الحرب الأهلية بين الجنوب والشمال . كذلك شهدت بداية القرن ال 19 وتحديدا في الفترة من 1801 1809 خلافا دستوريا كبيرا بين الرئيس " توماس جيفرسون " وبين المحكمة الدستورية الأمريكية عندما قضت بعدم دستورية عدد من القوانين المنظمة لعلاقة السلطة الفيدرالية بحكومات الولايات ، وتحت ضغط الرأي العام تراجعت المحكمة الدستورية عن توجهاتها السابقة بشأن التشريعات المنظمة لعلاقة السلطة الفيدرالية بالولايات معتبرة إياها من أعمال السيادة. ومرة أخرى نشب نفس الخلاف بين المحكمة الدستورية والرئيس " روبرت تايلور " وكان منطق الرئيس إنه لا يصح لسلطة غير منتخبة أن تفرض رأيها على سلطة منتخبة حول كيفية تنظيم شئونها وعلاقتها بحكومات الولايات التي تتكون منها الولاياتالمتحدة، ووصل الخلاف إلى الحد الذي قدم فيه الرئيس رئيس المحكمة الدستورية إلى الكونجرس بلائحة إتهام طالبا عزله ولكن قرار العزل لم يحظ بأغلبية الثلثين فتعذر لذلك عزله ، إلا إنه وإن كان الرئيس لم يفلح في عزل رئيس المحكمة الدستورية إلى أن هذا الإجراء العنيف ، والمؤيد بالرأي العام ، كان له أثره في أن المحكمة أجرت تعديلا جوهريا على نظرتها إلى الصفة القانونية لهذه التشريعات معتبرة إياها مرة أخرى من أعمال السيادة . من ذلك أيضا الخلاف الشهير في تاريخ المحكمة الدستورية الأمريكية بين الرئيس "تيدور روزفلت " وبينها ، فيما يعرف بال ( Big Deal ) إذ كانت المحكمة الدستورية قد الغت حزمة من التشريعات التي أصدرها الكونجرس في عام 1934 لرعاية حقوق العمال والفقراء في الولايت المتحدة للتخفيف من آثار الأزمة الإقتصادية العالمية في عام 1929 ، ولوقف التمدد الشيوعي ، الأمر الذي حدا بالرئيس الأمريكي إلى مهاجمة المحكمة علنا في أحدى خطبه ، متهما قضاتها بأنهم رجال " ينظرون إلى المستقبل وفي الوقت ذاته يتجاهلون الحاضر " ، وكما حدث سابقا فقد تراجعت المحكمة بعد ذلك عن رأيها في عدم دستورية مثل هذه التشريعات ، وإجازتها بعد ذلك معتبرة إياها تشريعات دستورية . نخلص مما تقدم إلى حقيقتين . الحقيقة الأولى أن قضاء المحاكم الدستورية يتأثر خاصة في القضايا التي لا تمس مباشرة حريات الأفراد وحقوقهم الدستورية بالتوجه السياسي لقضاتها إذ يمكن أن يختلف قضاءها بإختلاف الظروف لتحقيق قدر أكبر من الملائمة السياسية ، والحقيقة الثانية أن الخلاف بين رئيس الدولة والمحاكم الدستورية أمر مألوف في النظم الديمقراطية ، ولا يثير فوضى ولا يدعو إلى إسقاط النظام ، وان ما حدث في مصر نتيجة خلاف الرئيس مع المحكمة الدستورية لا يعدوا كونه توظيفا سياسيا لمسألة قانونية يكشف عن أن الديمقراطية لم تتأصل في مصر بعد .
أ*استاذ القانون العام بكلية القانون جامعة لوس أنجلوس