تناولت فى مقالى الأسبوعى يوم الجمعة الماضى الحالة المتردية التى يعد بها دستور مصر وما يجرى من عدم التوافق الكامل على الكثير من مواد الدستور فى حين يعلن أن معظم مواد الدستور تم التوافق عليها وهو الأمر الذى جعلنى أتذكر الأجواء التى أصدر بها قانون «سكسونيا» فى احدى المقاطعات الألمانية وإذ كان إعداده بغرض نشر العدالة فى المقاطعة ولكنه جاء لتمييز فئة على الفئات الأخرى وكان بموجبه يعاقب الفقير على مخالفته للقانون أما الغنى وأصحاب الجاه فكان العقاب يصيب ظلهم. لقد تخوفت من أن يكون دستور مصر فى نهاية إصداره مشابهاً لقانون «سكسونيا»، وكنت أنوى أن أتناول فى مقالى الأسبوعى فى هذه الجمعة الوضع الاقتصادى والمالى للدولة وخاصة ما يثار حول قرض الصندوق الدولى ما بين مؤيد ومعارض، ولكن التطورات السريعة التى تمت داخل اللجنة التأسيسية للدستور أجبرتنى على العودة للكتابة ثانية عن الدستور المصرى المتعثر الولادة. لقد أعلنت بعض القوى السياسية والمدنية خلال هذا الأسبوع تجميد عضويتها باللجنة التأسيسة ومنهم من قرر الانسحاب نهائيا من عضوية اللجنة التأسيسية بمن فى ذلك ممثلو الكنيسة. معنى هذا أن هذا القرار ترك اللجنة التأسيسية لتكون ممثلة فى معظم أعضائها المسيطرين عليها من الأعضاء المنتمين للجماعات الإسلامية سواء من الإخوان المسلمين أو من السلفيين خاصة أن إجتماعات اللجنة استمرت لمناقشة مواد الدستور دون الاكتراث بمن انسحب أو جمد عضويته وبالتالى سيتم التصويت على كافة مواد الدستور بالصيغة التى يتوافق عليها خاصة من الأعضاء الممثلين للجماعات الإسلامية وهى الصياغات التى اعترض عليها الأعضاء من الأحزاب المدنية الأخرى التى قررت الانسحاب من اللجنة. إن ما لجأ إليه ممثلو الأحزاب والقوى السياسية الوطنية الممثلة فى اللجنة التأسيسية من الانسحاب لهو إجراء سلبى يظهر عدم قدرة هذه الأحزاب وممثليها على التصدى للأفكار والاتجاهات التى تخدم مصلحة فصيل معينٍ فى صياغة الدستور، وكان على هؤلاء الأعضاء الممثلين للأحزاب والقوى المدنية السياسية أن يتمسكوا بآرائهم ودعمها بالدلائل المؤيدة لوجهة نظرهم وبما يؤدى إلى إقناع كافة أعضاء اللجنة التأسيسية بوجهة نظرهم فيما يطرحونه. لقد شهدت يوم الثلاثاء الماضى 20 نوفمبر مساء البث المباشر لاجتماع اللجنة التأسيسية على القناه التليفزيونية «صوت الشعب» وتابعت المناقشات والحوارات بين الأعضاء والمنصة ومما أثار إنتباهى أن السيد المستشار رئيس اللجنة للأسف يميز متحدثين عن متحدثين آخرين ورغبته فى إنهاء الحوار وعدم إعطاء الفرصة لطالبى الكلمات وطرح اقتراحاتهم وهو الأمر الذى أصابنى بخيبة الأمل فيما سيكون عليه المنتج النهائى للدستور والذى أستطيع أن أقول معه الآن ان أقل ما يوصف به الدستور المنتج من هذه اللجنة أنه «دستور سكسونيا» مع احترامى لكافة أعضاء اللجنة التأسيسية والمجهود الذى بذلوه ولكن المشكلة تكمن فى رئاسة اللجنة وأسلوب إدارتها. ومن الأمور التى جعلتنى أتخوف من المنتج النهائى للدستور من اللجنة التأسيسية الحالية ما شاهدته فى هذه الجلسة المشار إليها من سطحية المتحدثين وما يطرحونه من أفكار وصياغات غير محددة وقطعية فى معانيها وبما قد تؤدى إليه فى النهاية من الكثير من التفسيرات التى قد يتعلل بها كل فصيل لخدمة أغراضه والكل سيكون تحت مظلة الدستور. لقد نصب أعضاء القوى السياسية والأحزاب المنسحبة من الجمعية التأسيسية أنفسهم أوصياء على هذا الشعب وقرروا تشكيل جمعية فيما بينهم لوضع دستور أخر لهذه الدولة، دستور «سكسونيا» آخر، ما هذا الهزل الذى يجرى على الساحة السياسية من كلفهم بأن يضعوا دستورا لهذا البلد؟ من هم أصلا ليكونوا أوصياء على هذا الشعب ؟، لقد اختار الشعب الجمعية التأسيسية من خلال مؤسساته التشريعية وهى وحدها التى لها الحق فى إعداد وصياغة دستور الدولة أما انسحابهم فهو وصمة عار فى جبينهم وأحزابهم. إن أقل ما توصف به الانسحابات هو أنها سلبية وعدم القدرة على الصمود والمواجهة من أعضاء ورئاسات هذه الأحزاب والقوى السياسية وكان من الأكرم لهم ولأحزابهم التمسك بعضويتهم باللجنة التأسيسية والعمل جاهدين على دعم مطالبهم وأفكارهم بالبينة والإقناع وليس بالغضب والانسحاب. إن اختلاف وجهات النظر خاصة فى مثل هذه المواضيع والتى قد يغلب فى أعضائها التمثيل لفصيل أوأكثر يتمتعون بقوة الرأى والدعم غير الخفى من رئاسة اللجنة لهو أمر متوقع ولكن غير المتوقع أن نستسلم ونعلن انهزامنا والانسحاب وترك الساحة لمن نتهمهم بأنهم لا يعملون لصالح كل المصريين وإنما يعملون لإنتاج دستور يخدم مصالحهم وأغراضهم فى السيطرة على كافة مؤسسات الدولة. القضاة غير راضين عن وضعهم فى الدستور، المرأة غير راضية عن وضعها فى الدستور، رجال النيابة الإدارية غير راضين عن وضعهم فى الدستور، الكنيسة غير راضية عن وضع الإخوة المسيحيين فى الدستور، نقيب الفلاحين الممثل لأكثر من 40% من الشعب المصرى أعلن انسحابه وغير ذلك من الإعتراضات والانسحابات، أين إذن التوافق المعلن عنه أن معظم مواد الدستور التى جاءت فى المسودات المنشورة او تلك التى هى مازالت محل اختلاف أنه تم التوافق عليها؟ من المؤسف أن يصرح أحد الأساتذة عضو اللجنة التأسيسية عن حزب النور من أنه طالما قد انسحب معظم ممثلى الأحزاب والقوى السياسية المدنية من عضوية اللجنة التأسيسية فإنه سيطالب بالعودة إلى تعديل نص المادة الثانية وحذف كلمة مبادئ الشريعة الإسلامية وإحلالها بكلمة أحكام الشريعة الإسلامية كما أنه أيضا سيطالب بإلغاء المادة الثالثة التى تعطى لغير المسلمين الحق فى تطبيق شرائع أديانهم وليس الشريعة الإسلامية، أليس هذا هراء، أهذه هى اللغة التى يقبل أن يتحدث بها عضو اللجنة التأسيسية التى منحها الشعب المصرى بكل أطيافه وفصائله وأديانه الثقة فى أن يتولى نيابة عنهم إعداد وصياغة الدستور الذى يحقق لهذا الشعب الحرية والعيشة الكريمة والأمن والآمان وعدالة توزيع الدخل. أعود ثانية وأحمل ممثلى الأحزاب والقوى السياسية الذين انسحبوا من اللجنة التأسيسية مسئولية ما يجرى الآن على الساحة السياسية وترك إعداد الدستور وصياغته بما يخدم أغراض فصيل معين من الشعب المصرى. لقد انتهت ثورة 25 يناير والدولة الآن فى سبيل استكمال مؤسساتها التشريعية من خلال دستور تعده اللجنة التأسيسية التى تم تشكيلها بموجب قانون صادر من رئيس الدولة حتى إن كانت هناك دعاوى قانونية بعدم قانونية تشكيل اللجنة إلا أن كافة ممثلى الأحزاب والقوى السياسية المدنية وافقوا على الانضمام للجنة ولم يعتذروا فى حينها عن الانضمام، واليوم حينما عجزوا عن التصدى لسيطرة فصيل أو أكثر من أعضاء اللجنة التأسيسية انسحبوا بحجج واهية والادعاء بأنهم سيتولون إعداد دستور يحقق للشعب المصرى أهداف ثورته فى 25 يناير، أقولها لهم من سيصوت على هذا الدستور وبأى صفة سيطرح للشعب، هذا كان يمكن قبل انتخاب رئيس للجمهورية وإصدار قانون بتشكيل اللجنة التأسيسية لإعداد الدستور وصياغته أما الآن فليس لهذا التصرف من جانبهم أى إيجابية بل بالعكس قلل من شأنهم على الساحة السياسية كأفراد وكأحزاب. إن صياغة الدستور المصرى ليست بالشىء الهين ونحن نعلم أن أى مادة فى أى قانون يجب أن تكون صياغتها بما لا يعطى معها إلا معنى واحداً ولا تكون عرضة لعدة معانى أوتفسيرات وعليه يجب بعد إعداد مواد الدستور وصياغتها من اللجنة المختصة من أساتذة الفقه والقانون الدستورى أن تراجع صياغتها لغويا من الأساتذة أعضاء مجمع اللغة العربية حتى نقطع الطريق أمام تفسيرات كثيرة لخدمة أغراض متضاربة قصد بها هذه الصياغة. إن ممثلى الأحزاب والقوى الوطنية السياسية المنسحبين من اللجنة التأسيسية أو الذين جمدوا عضويتهم باللجنة منهم الكثيرون غير المقبولين من الشعب المصرى اعتبارهم سياسيين متلونين أو من فلول الحزب الوطنى المنحل أو أنهم قد أساءوا لأحزابهم، فكيف إذن يتوقعون أن يقبل منهم الشعب أى صياغة لدستوره، إننى أنصحهم بالعودة فورا لمباشرة مهامهم باللجنة التأسيسية وفرض إرادتهم ورؤيتهم فى المواد موضع الخلاف وطرحها على الشعب المصرى فى ندوات إعلامية حتى يكون له دور فى الضغط على رئاسة وأعضاء اللجنة التأسيسية بزحترام رغبة الشعب فى صياغة دستوره أو أن يكون على بينة بحقيقة الأوضاع وبالتالى عند الاستفتاء يستطيع إبداء الرأى بالإيجاب أو الرفض على بينة دون تدليس أو غش. وأرجو من السيد المستشار المحترم رئيس اللجنة أن يكون حليما وصبورا مع الأعضاء من غير الأعضاء الممثلين للجماعات الإسلامية وإعطاؤهم الفرصة لطرح اقتراحاتهم ورؤيتهم كما تعطى الفرصة لممثلى الأحزاب الإسلامية. إن التاريخ المصرى سيسطر لكم هذا الإنجاز العظيم لأول دستور مصرى فى ظل حكم مدنى فأرجو وأتمنى أن يكون فعلا إنجازا عظيما يشكركم عليه كافة أطياف وفصائل الشعب المصرى وألا يكون أشبه ما يوصف به أنه دستور «سكسونيا».