في نهايات القرن الثامن عشر اصدر عبد الله النديم جريدته الشهيرة "التنكيت والتبكيت" بهدف توعية المصريين بحقوقهم السياسية والسخرية من جبروت الخديوي اسماعيل وسلفه توفيق، واليوم اسمح لنفسي ان انسخ اسم جريدة النديم محرفا بما يناسب الاوضاع التي تعيشها النخبة المصرية في مرحلة ما بعد الثورة، فالحالة الان لم تعد تحمل تنكيتا، كما ان التبكيت الذي يتعرض له المصريون من نخبهم بلغ مرحلتي التهويل والتعويل والاخيرة تعني البكاء والنحيب في معجم مختار الصحاح وتعني ايضا الميل عن الحق في القاموس المحيط. في هذه الايام لا صوت يعلو على صوت التخويف والتحذير من ان تصبح مصر دولة دينية على النمط الايراني، وفي سبيل ترويج هذا النموذج يجري تحديد طريقة التعامل مع كل الوقائع التي تشهدها مصر ومنها كلمة الشيخ السلفي حسين يعقوب عن غزوة الصناديق، وحادثة قطع اذن قبطي من قبل سلفيين اقاموا عليه الحد لتورطه في علاقة اثمة مع سيدة مسلمة، وكذلك مقطع الفيديو المنتشر بكثافة على مواقع الفيس بوك عن قس يطالب المسيحين بحشد قواهم لقول لا في الاستفتاء على التعديلات الدستورية. ارجو ان تتأملوا معي طريقة تعامل افراد النخبة مع الوقائع الثلاثة.. ففي الاولى كان سيناريو التخويف جاهزا من سيطرة الاسلاميين دون ان يسمح احد بالتعامل مع الامر باعتباره زلة لسان او دعابة في غير محلها كما قال الرجل نفسه لاحقا، وفي الثانية تسابق الكل لادانة العمل البربري دون ان يسأل احدهم نفسه في اي صفحة من القرآن او السنة ذكر حد قطع الاذن..!!!، بينما لن احتاج لتذكيركم بان الواقعة الثالثة لم يتطرق لها ولو واحد فقط من النخبويين المصريين ولو من باب التغيير، وهو تجاهل لا يعكس محاباة النخبة للاقباط وانما فقط يوضح انهم ليسوا طرفا في المعركة الحالية للنخبويين. حالات متعددة من التهويل والتعويل حفلت بها وسائل الاعلام المسموعة والمرئية والمقروءة (وربما المحسوسة) من ان الاسلاميين قادمون وان القاهرة ستتحول الى "قم" ثانية وسيتحول شباب الاخوان الى قوات "باسيج" جديدة، ورغم انني احسب نفسي ضمن دعاة الدولة المدنية الا ان الخطاب المزدوج للنخبويين المصريين يستحق ان نتوقف عنده، فما كانوا ينادون به (ويتكسبون منه) قبل 25 يناير من ضرورة الاحتكام الى رأي الشعب وضرورة تداول السلطة وانهاء حكم العسكر تحول بقدرة قادر الى مناشدة العسكر البقاء في السلطة لان القوى السياسية غير جاهزة والشعب لا يفهم التعديلات الدستورية ولا يعرف مصلحته، والسؤال هنا هو اين كانت الاحزاب والقوى السياسية طوال الثلاثين عاما الماضية؟ واذا كان المقصود شباب الثورة فهل قام هؤلاء بثورتهم لتحسين الحياة ام لاحتكار السلطة؟! واذا فعلوا فما الفارق بينهم وبين الضباط الاحرار الذين ثاروا على فساد الملك والحياة السياسية ثم وجدوا من النخب من يزين لهم البقاء في السلطة؟!! وهل تضمن النخبة ان الشعب سيفهم بعد عام او اثنين؟! واذا لم يحدث فهل نطلب من العسكر البقاء لمدة اخرى؟! ثم اذا كان الشعب الذي لا يفهم نجح في تنحية مبارك فماذا فعلت النخب المصرية طوال 30 عاما الا التقرب منه ونجليه طمعا في منصب او بحثا عن نفوذ؟!! وحتى مع افتراض ان التصويت بنعم على التعديلات حدث بفضل نجاح الاخوان والاسلاميين في حشد قواعدهم وتوجيه الناخبين الى الطريق الذي ارادوه.. الا يعني هذا النجاح الذي يقابله فشل بقية القوى السياسية في تعبئة الشعب لقول لا انهم الاحق بالسلطة وفقا لقواعد الديمقراطية مع ملاحظة انني لا ادعو لذلك ولا اروج له؟!! ان تهافت افراد النخبة المصرية على التحذير من الاسلاميين والسعي لمحاصرتهم اوقعهم في خطأ تكتيكي بالغ الخطورة هو تعظيم قوة هؤلاء واظهارهم في صورة من يديرون الشعب المصري بالريموت كنترول، وهو خطأ لن تكون اخطر تبعاته مزيد من الافساح للاسلاميين في عقول البسطاء من المصريين فقط وانما قد تصل الامور الى اقصاء غير الاسلاميين من الصورة او على الاقل تراجعهم خطوات واسعة الى الوراء.