نشر الكاتب الإسرائيلي اليساري الشهير أوري أفنيري علي موقعه في 12 مارس تغطية ممتزة لأثر الثورات العربية علي إسرائيل، وافنيري لمن لا يعرفه هو أكثر الإسرائيليين إيماناً بأن فرص إسرائيل في البقاء تكمن في تحولها لدولة بالمنطقة في سلام مع جيرانها وليست قاعدة عسكرية للاستعمار الغربي. يقول أفنيري: هذا هو الحصاد الأخير للأفكار الخلاقة! فوزير الدفاع إيهود باراك أعلن أنه سيطلب من أمريكا قرضاً إضافياً بعشرين مليار دولار لشراء طائرات مقاتلة وزوارق صواريخ وغواصة وحاملات جنود.. إلخ. أما رئيس الوزراء نتنياهو فقد ظهر في صور محاطاً بنساء مجندات مثل معمر القذافي في أيامه الخوالي. ظهر في الصورة وهو ينظر عبر نهر الأردن ويعلن أن الجيش الإسرائيلي لن يترك وادي الأردن أبداً.. فهذا الشريط هو حدود إسرائيل الآمنة. وهذا الشعار قديم بقدم الاحتلال.. وكان جزءاً من خطة آلون الشهيرة لإحاطة الضفة الغربية بالأراضي الإسرائيلية. فأرض وادي الأردن في نظره مثالية لبناء مستوطنات فهي أرض منبسطة مليئة بالماء وقليلة السكان العرب. ومع هذا فقد تغير الزمن. فعندما كان آلون قائد أسطورياً سنة 1948 لم يكن يحلم بالصواريخ التي يمكن أن تطلق من الأردن فتصل بسهولة لبيتي في تل أبيب. وعندما يعلن نتنياهو أننا نحتاج لوادي الأردن لمنع العرب من تهريب الصواريخ للضفة الغربية فإنه يكون متخلفاً عن الزمن. عندما يواجه الساسة بشجاعة العالم الجديد فلا يمكن أن يتخلف الجيش عنهم. وقد أعلن عدد من قادة الفرق هذا الأسبوع أنهم يعدون لمواجهة انتفاضة سلمية جماعية في الضفة الغربية علي غرار ميدان التحرير بمصر. فالقوات المعدة لمواجهة الإضرابات تتدرب علي أساليب القمع. فجيشنا الباسل يتدرب لمهمة بوليسية استعمارية. ولتقوية الإطار الذهني لقادتنا فقد جند نتنياهو عبقرية هائلة هي الجنرال ياكوف أميدرور كرئيس لمجلس الأمن القومي. ولم يخف الجنرال أبداً أفكاره شديدة التطرف. وضمنها معارضته التامة لقيام دولة فلسطينية أو مسيرة سلام عموماً. وقد صرح مؤخراً بأن بعض الجيوش »تضع رصاصة في رأس الجندي الذي يرفض مهاجمة العدو«. وطبيعي أن يدعو نتنياهو حزب الجبهة القومية للاشتراك في حكومته، ولكن الحزب رفض لأن نتنياهو ليس متطرفاً بما يكفي!! وفي هذه الأثناء فإن دستة من كبار الساسة مثل ليبرمان، بدأوا يخرجون مشاريع »لاتفاقات مؤقتة« مع الفلسطينيين، بضاعة قديمة لا تجد من يشتريها. وعموماً فإن الساسة الأقزام عندما يواجهون حقيقة ثورية جديدة فإنهم لا يفهمونها ولا يعرفون كيف يواجهونها، وبمثل هذه المجموعة من الساسة فإنه من السذاجة أن نسأل ما يجب علينا عمله لمواجهة الحقيقة الجيوسياسية الجديدة. وبفرض أن العالم العربي أو جزءاً كبيراً منه في طريقه للديمقراطية والتطور الاجتماعي، فكيف سيؤثر هذا علي مستقبلنا؟ هل نستطيع بناء معايير للوصول لهذه المجتمعات التقدمية متعددة الأحزاب؟ هل نستطيع تحريضهم علي قبولنا كجزء مشروع من المنطقة؟ هل نستطيع الاشتراك في البروز الجديد للشرق الأوسط الجديد اقتصادياً وسياسياً؟! أعتقد أننا نستطيع، ولكن الشرط الضروري الحتمي لذلك هو أن نصل للسلام مع الفلسطينيين، فالقناعة التي لا تهتز للمؤسسة الإسرائيلية الحاكمة هي أن السلام مع الفلسطينيين مستحيل، وهم محقون في ذلك طالما ظلوا هم الحكام، فالسلام مع المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة مستحيل فعلاً، ولكن هل يتغير الوضع لو تغيرت القيادة؟ إذا كان الطرفان يريدان السلام فعلاً - ومسئولية إسرائيل هي الأكبر لأنها الجانب الأقوي - فإن السلام ممكن تماماً، فكل الشروط معروفة وسبق دراستها مرات لا حصر لها. فنقاط التوافق معروفة بوضوح، ولا يحتاج الأمر لأكثر من بضعة أسابيع لوضع حلول لمسائل الحدود والقدس والمستوطنات واللاجئين والمياه والأمن، كلنا يعرف الحلول، والباقي هو وجود الإرادة السياسية. فاتفاق سلام توقعه منظمة التحرير ويعتمده استفتاء شعبي وتقبله حماس سيغير جذرياً موقف الشعوب العربية منا. وليس هذا مجرد إجراء شكلي. فهو أمر متجذر في الشعور القومي، وليس هناك أي ثورة عربية حالياً نادت بالعداء لإسرائيل أو الدعوة لمحاربتها، فالواقع أن فكرة الحرب تتناقض مع ما تريده هذه الثورات من تطور اجتماعي وحرية ومستوي معيشة يسمح بحياة كريمة، ولكن طالما ظل احتلالنا الأرض الفلسطينية قائماً فسيرفض العرب قبول إسرائيل. وأياً كان شعور أي شعب عربي نحو الفلسطينيين فإن كل العرب يشعرون بضرورة مساعدتهم للتحرر كشعب عربي شقيق يحتاج للمساعدة. ولذلك ستجني إسرائيل المرارة في كل انتخابات عربية حرة، وسيدين كل حزب عربي إسرائيل، وهناك وجهة نظر ضد السلام ترددها دعايتنا السياسية وهي أن حماس لن تقبل السلام أبداً وأن كل حركة إسلامية في أي بلد تكسب انتخابات حرة كما فعلت حماس تمثل خطراً مميتاً لنا، ولكن دعونا نتذكر أن حماس منظمة صنعتها إسرائيل لمحاربة منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت عدو إسرائيل الأساسي، وهذا الفكر طبعاً خطأ جسيم وقصور نظر من قادتنا السياسيين والعسكريين، فعند اندلاع الانتفاضة الأولي أشعلت حماس الصراع ضدنا، وكذلك كان ظهور حزب الله نتيجة احتلال إسرائيل للبنان 1982 للقضاء علي نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية، فكل من حماس وحزب الله يسعي للسلطة في بلده، ومحاربة إسرائيل هي الوسيلة لا الغاية لديهما، وعندما يتحقق السلام ستتجه جهودهما للوصول للسلطة في بلديهما. فهل ستقبل حماس السلام؟ لقد أعلنت أنه إذا عقدت منظمة التحرير سلاماً مع إسرائيل وأقره استفتاء شعبي فستقبله حماس كرغبة الشعب، ونفس الشيء ينطبق علي كل الحركات الإسلامية باستثناء تنظيم القاعدة وأمثاله. فسلام يقبله الفلسطينيون ويحقق آمالهم القومية لن يعترض عليه أي جانب عربي بما فيه حزب الله والإخوان المسلمون وأمثالهم، وعندما تزول هذه العقبة سيحكم العرب علي إسرائيل بتصرفاتها، وستكون لدينا الفرص التاريخية للاشتراك في إعادة تشكيل المنطقة. منذ أكثر من خمسين عاماً اقترح ولي عهد المغرب عندئذ - الملك الحسن فيما بعد - دعوة إسرائيل لدخول الجامعة العربية. وكانت فكرة خيالية عندئذ نسيها العرب إلا الملك الحسن نفسه الذي ذكرني بها في لقاء سري معه 1981، واليوم في وجود عالم عربي جديد علي الأفق تبدو هذه الفكرة الخيالية ممكنة، ولكن بعد السلام وقيام دولة فلسطينية مستقلة، سيعاد تشكيل المنطقة بما فيها إسرائيل وتركيا وإيران فيما بعد. ستكون منطقة ذات حدود مفتوحة ونشاط اقتصادي وتعاون من مراكش غرباً إلي الموصل شرقاً ومن حيفا شمالاً إلي عدن جنوباً، وخلال جيل أو جيلين سيتحقق هذا الاندماج نتيجة الأحداث السياسية التي تزلزل المنطقة حالياً. وطبعاً يحتاج هذا التطور لتغيير جذري في مفاهيمنا العتيقة، ولن يحدث ذلك طالما ظلت حياتنا الثقافية والسياسية يسيطر عليها نتنياهو وليبرمان وباراك وإيلي ييشاي وتسيبي ليفني وبيريز وأمثالهم، لابد أن يتطهر المسرح من كل الأقزام. هل يمكن حدوث ذلك؟ هل سيحدث ذلك؟ ستهز الحقيقة رأسها بالإيجاب كما هزتها عندما هدم الألمان حائط برلين وعندما اعتلي يلتسين الدبابة في موسكو وعندما انتخب الأمريكيون للرئاسة زنجياً اسمه الأوسط حسين. وإلي هنا ينتهي عرض أفنيري الشيق الذي لا نملك معه إلا تحيته مهما اختلفنا معه في آرائه أحياناً. *عضو الهيئة العليا للوفد