رغم أن الثورة التونسية فجرت مفاجآت وصلت إلى حد "المعجزات", وخاصة فيما يتعلق بإطلاق الشرارة الأولى للربيع العربي وتقديم نموذج يحتذى في النقل السلمي الهادئ للسلطة, إلا أن التصريحات الأخيرة لرئيس الحكومة الانتقالية وأمين عام حركة النهضة الإسلامية حمادي الجبالي جاءت لتثير فزع كثيرين, خاصة أن الكيان الصهيوني المتربص لم ولن يفوت فرصة لإفشال انتفاضة الشعوب العربية من أجل الكرامة والحرية. وكان الجبالي خرج على الجميع في 22 يناير بتصريحات مفاجئة أكد خلالها أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس تردى بشكل أكبر من المتوقع خلال الشهور الأخيرة. وأضاف في مقابلة بثها التليفزيون الرسمي التونسي أن هذا التردي يعود إلى ظاهرة الاعتصامات وقطع الطرقات والإضرابات العمالية العشوائية. وتابع أن الاقتصاد التونسي تكبد بسبب هذه الظاهرة خسائر مالية بقيمة 2,5 مليار دينار (الدولار= 1,5 دينار) خلال 2011 وأن النمو الاقتصادي للبلاد تراجع في نفس العام بحوالي نقطتين تحت الصفر. وأشار الجبالي أيضا إلى أن 15 ألف تونسي فقدوا وظائفهم في 2011 بسبب تردي الوضع الاقتصادي وأن حالة عدم الاستقرار الاجتماعي في البلاد حالت دون تنفيذ مشاريع استثمارية جديدة كانت ستوفر 26 ألف فرصة عمل جديدة. وفيما ذكر أن عدد العاطلين في تونس يبلغ حاليا 800 ألف بينهم 200 ألف من أصحاب شهادات التعليم العالي, حذر الجبالي من أن مصير البلاد أصبح في الميزان, قائلا: "لن نقبل الاعتصام العشوائي بعد اليوم". وكانت الاعتصامات والإضرابات العمالية وقطع الطرقات اجتاحت مختلف مناطق تونس بعد ثورة 14 يناير 2011 التي أطاحت بنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. وبالنظر إلى أن هذه أول مرة يسجل فيها الاقتصاد التونسي نموا سلبيا منذ عشرين عاما بعد أن حققت البلاد خلال العقدين الأخيرين نموا اقتصاديا بمعدل 5% سنويا , فقد سارع كثيرون للتحذير من مخاطر محدقة تتهدد الثورة التونسية. ولعل تصريحات أطلقها الرئيس التونسي المنصف المرزوقي في 20 يناير ضاعفت أيضا من القلق في هذا الصدد, حيث اتهم أحزاب أقصى اليسار ومجموعة من أزلام النظام البائد باستغلال الاحتجاجات الاجتماعية لتخريب الثورة. ووصف المرزوقي في تصريحات لقناة "الجزيرة" ما يجري في تلك الاحتجاجات من طرف هذه القوى السياسية بأنه "استغلال وتسييس وتحريض يريد أصحابه إغراق البلد من أجل إغراق الائتلاف الحاكم". وفيما أكد أن الحكم الحالي ورث تركة كبيرة وثقيلة هي ثمرة ستين سنة من الديكتاتورية والفساد, بادر المرزوقي إلى طمأنة التونسيين بأنه لا حل لهذه الاحتجاجات إلا بالإقناع والحوار بعيدا عن الحل الأمني, قائلا :" نحن أبناء الثورة لا نتصور أن نطلق النار على أبنائها". وأضاف أن سوء نية بعض الأطراف المعارضة جعلها تعتبر أن هذه المشاكل نتيجة عدم قدرة الحكومة الحالية على معالجة الأوضاع، إلا أنه شدد في الوقت ذاته على أن عدم النجاح في إعادة الأمل إلى المناطق المهمشة سيكون دليلا على فشل الثورة. ويبدو أن تصريحات حسين العباسي الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل جاءت لتضاعف أيضا القلق أكثر وأكثر هو أن هناك مؤامرة خبيثة لتخريب الثورة التونسية. وكان العباسي قال في كلمة ألقاها في 20 يناير بمناسبة الاحتفال بالذكرى 66 لتأسيس الاتحاد, الذي يعتبر أكبر منظمة نقابية تونسية، إن الحكومة والأحزاب السياسية تتحمل مسئولية الاضطرابات والاحتجاجات الاجتماعية التي تعصف بالبلاد منذ مدة. وأضاف العباسي أن ما يحدث من اضطرابات واعتصامات في عدد من جهات البلاد تتحمل مسئوليته الأحزاب السياسية التي رفعت عاليا من سقف الوعود في صفوف الناخبين أثناء حملاتها الانتخابية لتجد نفسها اليوم عاجزة عن تلبية ما كانت قد وعدت به. ورفض في هذا الصدد الاتهامات الموجهة للاتحاد العام التونسي للشغل بأنه وراء الاحتجاجات والاعتصامات التي تشهدها البلاد، قائلا :" إن الاتحاد لا علاقة له بأكثر من 80 % من هذه الاعتصامات والاحتجاجات لأنه ضد الاعتصامات المخربة للمرافق العامة والتي تعطل العجلة الاقتصادية للبلاد". وذكرت صحيفة "القدس العربي" اللندنية أن العباسي دعا في هذا السياق المسئولين في الحكومة إلى التحول إلى أماكن الاحتجاجات ومخاطبة أبناء المناطق المحرومة المطالبين بتحقيق أهداف الثورة بكل وضوح وعقلانية حول ما يمكن إنجازه لفائدتهم وفق الإمكانيات الحقيقية المتاحة للدولة في الوقت الراهن. وبصفة عامة, فإن امتداد الاعتصامات والاحتجاجات والإضرابات عن العمل إلى غالبية المناطق التونسية وتحولها في أحيان كثيرة إلى أعمال عنف وتخريب وقطع للطرقات بالحجارة والإطارات المشتعلة, هي أمور تؤكد أن هناك من يحاول العبث بالثورة التونسية وإفشال حكومة الجبالي, ولذا لا بديل عن الإسراع بإجراء حوار جدي مع المحتجين لبحث مطالبهم من ناحية ومنع المندسين من استغلال مظالمهم لتخريب الثورة من ناحية أخرى.