قلبي يكاد ينفطر وأنا أرى الخطر محدقاً ببلادي، وليس لدي حيلة سوى بضعة أسطر لا أعلم من يمكن أن يهتم بها، لكن الصمت الآن عار، وتفضيل النفس على الأوطان عار، ومشاهدة الوطن يغرق ونحن في أماكننا عار. ولذا لن أكون شيطاناً أخرس، حتى وإن أدركت أنه لن يسمعني أحد. نحتاج أن نعود إلى الوراء قليلاً حتى نفهم أين يكمن الخطر؛ فلم يكن هناك توزيع للقوة في مصر في حكم مبارك، بل كان الحكم استمراراً للتقاليد المصرية القائمة على حكومة مركزية تحتكر السلطة وتسيطر على الأطراف من خلال نظام أمني محكم وعنيف، ومع اندلاع انتفاضة الشعب في 25 يناير ظهرت قوة جديدة أرغمت الحاكم على إجراء تعديل وزاري وتعيين نائب للرئيس لأول مرة منذ 29 عاماً. لكن القوى الشعبية ساعدت على إبراز قوى أخرى فاعلة في الحياة السياسية بشكل لم نكن نتصوره، حيث بدا جلياً بعد أيام قليلة من اندلاع المظاهرات أن أمريكا تأخذ جانب الإطاحة بمبارك، وفي تصريح لأحد معاوني الرئيس اوباما لصحيفة لوس انجيليس تايمز (طلب الرجل عدم الكشف عن اسمه) ذكر أن اوباما أراد الضغط على مبارك ودفعه للتنحي، وبعدما استمع اوباما إلى كلمة مبارك في 1 فبراير أدرك أن مبارك لم يعد يصلح للاستمرار، فأجرى معه إتصالاً هاتفياً وصفه معاونوه بأنه كان أصعب اتصال أجراه اوباما مع زعيم أجنبي. في هذا الاتصال قال اوباما بالنص لمبارك: هناك احتياج لأن يحدث تغيير في القيادة في مصر. بعدها بدأ اوباما ومعه الإدارة الأمريكية في توجيه الخطاب إلى الجيش المصري، وفي يوم 10 فبراير (قبل تنحي مبارك بيوم) ذكرت صحيفة النيو يورك تايمز أن مبارك سوف ينقل السلطة إلى الجيش، وليس عمر سليمان! وفي جلسة استماع عقدها الكونجرس لمدير المخابرات ليون بانيتا (صار وزيراً للدفاع فيما بعد) فى ذات اليوم الذي سبق التنحي سئل عما إذا كانت قد اتخذت الإجراءت التي تضمن مصلحة إسرائيل في مرحلة ما بعد مبارك، فأجاب بانيتا بأنه لا يستطيع الإجابة بالتفصيل على هذا السؤال في جلسة علنية، ولكن بشكل عام؛ نعم، تم إتخاذ هذه الإجراءت! الشاهد في هذه القصة أن الضغط الشعبي هو الذي فرض التغيير، ولكنه لم يكن هو الذي حدد مسار هذا التغيير. وتولى المجلس العسكري إدارة شؤون البلاد، لتبرز على الساحة ثلاث قوى متصارعة، وهي: قلب الدولة الصلب ممثلاً في الجيش والأمن، والتيار الديني بزعامة الإخوان المسلمين، والقوى الثورية والليبرالية، هذا المثلث الجديد في السياسة المصرية يحمل معه إشكالية كبيرة، تتمثل في تكافؤ القوى بين أضلاع المثلث بما يزيد من أمد الصراع من ناحية، ويدفع كل طرف إلى التماس الدعم من أطراف خارجية ليدعم من قوته في مواجهة الآخرين، لتصبح السياسة المصرية رهينة بتوازنات القوى الخرجية أكثر من التفاعلات الداخلية. الأكثر خطورة من ذلك هو إدراك أطراف الصراع لفكرة الدخول في تحالفات لتقوية الذات وإضعاف الآخرين، فشهدنا ذلك التقارب في المواقف بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين، مما فتت الإجماع الشعبي وأضعف الزخم الثوري، بما يعني أن التغيير في مصر لن يكون متأثراً بالمد الشعبي بل بلعبة التوازنات وتأثير القوى الخارجية. وتحول المشهد في مصر إلى صراع بين الجميع، تستخدم فيه كل الحيل، والفتن، والتشريعات، الفيديوهات، والبيانات، وتنتقل مصر من انقسام إلى تفتت، ومن انهماك بالشأن الداخلي إلى إنكفاء على الداخل، وتزداد عزلة مصر، وتنقطع كل خيوط التأثير المصرية على محيطها العربي والأفريقي، ومن المعروف استراتيجياً أن إنكفاء أي دولة على ذاتها، وانقسام القوى السياسية داخلها إلى معسكرات متكافئة ومتناحرة معناه بداية النهاية لهذه الدولة، وإذا أضفت إلى المعادلة الوضع الاقتصادي الصعب لأدركت معي معنى عنوان المقال، فقد انخفض معدل نمو الاقتصاد المصري من 7% العام الماضي إلى 1% هذا العام، وهي نسبة متدنية للغاية تقول إننا على حافة الخطر، كما انخفض الاحتياطي من النقد الأجنبي بنسبة 40%. ويلخص المحلل الاقتصادي العالمي "ديفيد جولدمان" الوضع الأقتصادي في مصر قائلاً: "مصر تستورد نصف استهلاكها من الغذاء، و45% من سكانها أميون، ولايجد خريجو الجامعات فيها وظائف، وتهاوت صناعة السياحة التي كانت تدر عليها 10 بليون دولار، وبدأ إحتياطي النقد الأجنبي فيها في التلاشي... وستكون نتيجة كل هذا كارثة إنسانية تجعل من الوضع في الصومال مجرد نزهة." إن ضعف الحكومة المركزية في مصر، وظهور قوى قادرة على تحدي الحكومة وإهانتها، وبروز جماعات مسلحة قادرة على امتلاك ناطق نفوذ خارجة عن سيطرة الحكومة، يعني أن الدولة المصرية توجه خطر التفتيت لأول مرة منذ قرون بعيدة، فلا الحكومة قادرة على فرض سيطرتها، ولا القوى الثورية قادرة على التوحد وحشد طاقتها لإحداث التغيير، مما يعني مزيداً من الصراع، ومزيداً من الدماء، ومزيداً من الحرائق، ومزيداً من الخطر. الكل صار يفكر في نفسه ونسي هذا الوطن العظيم، فهذا المجلس العسكري يمارس تكتيكات باهتة عفا عليها الزمن من أجل الاحتفاظ بالسلطة أو على الأقل أكبر قدر من الأمتيازات، وهذه بعض القوى الثورية تحارب من أجل المبدأ الصح في الوقت الخطأ، وبالأسلوب الخطأ، وتلك بقية النظام القديم تسعى إلى استمرار الفوضى وتعميق الانقسام، والناس مابين أولئك وهؤلاء حيارى، مرهقون، ومحبطون. ووسط كل هذا ينسحب الوطن من بين أيدينا، ونهوي إلى قاع بعيدة لن نجو منها قبل سنوات طويلة. يا سادة إن أبسط قواعد ضرب الثورة هو تفتيتها، وإلهاء أطرافها بمعارك، وانقسامات، وفتن، وليس هناك من حل إلا بطرح الخلافات جانباً، وتوحيد كل القوى الثورية، وإجبار المجلس العسكري على المضي في تسليم السلطة دون مراوغة، وتفويت الفرصة على مثيري الفتن، والالتزام بالقانون حتى لا نعود إلى روح الغابة التي حلت بنا، والابتعاد عن هذا الصراع الديني/العلماني السخيف الذي لا يعدو أن يكون رفاهية فكرية انهمكنا فيها وتركنا الوطن يغرق. لا أرى أيضا مانعاً من فتح صفحة جديدة، والنظر إلى الأمام، والتركيز على الانتقال السياسي، ثم الأمن والتنمية، فهذا هو أمننا القومي الذي تتراجع عنده اية اعتبارات أخرى. الوطن باق ونحن زائلون. هذا أمر مفهوم، أما أن نترك الوطن يزول معنا، فها هو العار بعينه، والخيانة في أبشع صورها، واسمعوا معي قول بدر شاكر السياب: إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون! أيخون إنسان بلاده؟ إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟ ... يا سادة، لا يمكن أن يبدأ البناء قبل أن يتوقف الهدم. هذا أو الضياع، ولكن لن يرضى أى وطني بضياع الوطن، سوف نكون، وسوف يكون الوطن معنا إن شاء الله.