"كيف يمكن أن يحدث هذا؟"، هكذا تساءلت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بعد المظاهرات والهجوم الذي استهدف البعثة الدبلوماسية الأميركية في بنغازي وأسفر عن مقتل السفير الأميركي في ليبيا وثلاثة أميركيين آخرين. "كيف يمكن أن يحدث هذا في بلد ساهمنا في تحريره، وفي مدينة ساعدنا على إنقاذها من الدمار؟". غير أنه إذا لم تكن رئيس الدبلوماسية الأميركية تعرف، فربما لا جدوى من محاولة أن يشرح لها – ولأميركيين آخرين كثيرين – سبب الأحداث التي عرفتها بنغازي ومظاهرات أخرى معادية للولايات المتحدة وقعت مؤخراً في مدن عبر العالم، أثارها مقطع الفيديو الذي نشر على "يوتيوب" ويسيء للرسول محمد. والواقع أن رد الفعل هذا لم يكن حكراً عليها. فهذا مراسل "إن. بي. سي. نيوز" في القاهرة نُقل عنه قوله (من قبل موقع ديديفانسا الفرنسي) في إطار تعليقه على الاحتجاجات التي اندلعت ضد السفارة الأميركية هناك، "إنه من المثير للسخرية بعض الشيء (رؤية هذا يحدث) مع دبلوماسيين أميركيين داخل السفارة التي ساعدت على منح هؤلاء المتظاهرين وهؤلاء المحتجين صوتاً، والسماح لهم بالقيام بهذه الاشتباكات المعادية للولايات المتحدة التي نشاهدها الآن". والحق أنه من غير العدل تحميل مراسل يقوم بتغطية حدث مباشرة على الهواء مسؤولية كل ما يقوله، إلا أنه ربما كان يجدر به أن يلاحظ أن ما قامت به الدبلوماسية الأميركية في مصر لم يكن تحريرها وإنما دعم نظام ديكتاتوري عسكري لأكثر من ثلاثين سنة، حتى اندلاع أولى المظاهرات الشعبية ضد الحكومة المصرية. وفقط عندما يبدو أن ميزان القوة بدأ يرجح لمصلحة المحتجين، قررت واشنطن أنه من الملائم أن تخون حسني مبارك المحاصَر وتدعم مطالب المحتجين وتبحث عن أحد من بين الطامحين إلى السلطة يمكن أن يستأنف التعاون مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل. ما هو أكثر من "مثير للسخرية بعض الشيء" هو تأويل الدبلوماسية الأميركية في مصر، والدعم الأميركي المتأخر للتدخل الذي بدأه الأوروبيون في الثورة الليبية، على أنها مساهمات كبيرة وسخية في تحرير العرب. ذلك أن ما قامت به الولاياتالمتحدة في الانتفاضات العربية، ضد بنية إقليمية تقوم إلى حد كبير على حكومات متسلطة مدعومة من الولاياتالمتحدة، هو اللحاق بآخر قطار خارج من المحطة، والعودة إلى المشهد، قدر المستطاع، عبر الباب الخلفي. وزيرة الخارجية كلينتون يبدو أنها تعتقد أن على العرب والمصريين أن يكونوا ممتنين لأميركا، ولعل معظم الأميركيين يتفقون مع ذلك. والحال أن المظاهرات كانت في الحقيقة أصغر حجماً وأقل انتشاراً بكثير من تلك التي اندلعت قبل نحو عقد من الزمن احتجاجا على رواية سلمان رشدي "الآيات الشيطانية"، أو تلك التي اندلعت احتجاجاً على نشر صحيفة دنماركية لرسوم كرتونية للرسول. هذا فرق صغير ولكن يستحق أن نأخذه في عين الاعتبار. إن القرآن ليس مجرد كتاب مقدس، مثل "الكتاب المقدس" لدى المسيحيين. فالأخير (ما يسميه المسيحيون "العهد القديم") يتألف من مخطوطات تدون تعاملات الإله مع شعبه المختار؛ هذا بينما يحتوي "العهد الجديد" على روايات الإنجيل الأربع لحياة يسوع، وما يسمى "الرسائل الرسولية" للشخصيات الأولى في الكنيسة المسيحية. ولكن الاثنين هما، سجلات من الماضي. أما القرآن، ولأنه يعتبر كلام الله المنزل على النبي محمد، فهو يعتبر مقدساً في حد ذاته. والإساءة إليه تعتبر تدنيساً للمقدسات وانتهاكاً للحرمات. وهذا ما يفسر العنف الذي ميز رد الفعل على الفيديو، وغضب المسلمين لكون الشرطة اكتفت على ما يبدو بتوجيه بعض التوبيخ للأشخاص المسؤولين عنه قبل أن تخلي سبيلهم. فقد يعتقد المرء أنهم قد يحمَّلون مسؤولية التدخل في ممارسة السياسة الخارجية الأميركية، أو توجَّه لهم تهمة المسؤولية غير المباشرة عن العنف ضد أميركيين وآخرين. والحال أنه لم توجه لهم حتى تهمة التحريض على سلوك مخالف للنظام والقانون. أما في ما يخص ممارسة حرية التعبير، فإن ما قاموا به يفوق صياح شخص: "نار!" في مسرح مكتظ بالجمهور – حتى نستعمل المعيار الذي أشار إليه عضو المحكمة العليا القاضي "أوليفر ويندل هولمز" للإشارة إلى ما لا يندرج ضمن إطار حرية التعبير. ثم إن "برادلي مانينج" المسكين،أمضى أكثر من عامين في زنزانة انفرادية في سجن عسكري (وقد يمضي بقية حياته هناك، إذا سارت الأمور وفق ما تسعى إليه هذه الإدارة)، لأنه قام بنقل معلومات (تخص حرب العراق) إلى موقع ويكيليكس. وعودا على بدء، فقد عبرت وزيرة الخارجية وآخرون عن اندهاشهم لكون بعض المسلمين في هذا العالم لا يعترفون بأن الولاياتالمتحدة تمتلك المثل وتشجع القيم الديمقراطية التي تقول إنها تشعها في العالم. والحال أن أعداداً كبيرة منهم تكره الولاياتالمتحدة، لأن إدارتي جورج دبليو. بوش والآن أوباما منحتهم أسباباً لذلك. ويمكنهم الآن أن يفترضوا على نحو معقول ومنطقي أنه سواء نجح أوباما أو رومني في الوصول إلى مكتب الرئاسة، فإن الرئيس الجديد سيوفر للعرب مزيداً من الأسباب لكره الأميركيين. هذا اللهم إلا إذا تدخلت العناية الإلهية وحدث شيء ما يقنع الحكومة الأميركية بسحب جيوشها، وتشجيع الهدوء والاستقرار، وممارسة القيم التي تزعمها البلاد دائماً، ولكن يبدو أنها قد نسيتها الآن.