تنمّ الجهود الجبّارة التي بذلها وزير الخارجية الأميركي جون كيري للتوصّل إلى اتفاق سلام بهدف إنهاء النزاع في منطقة الشرق الأوسط، عن عمل بطولي. فهو على اطّلاع كامل على المسائل المرتبطة بهذا النزاع وعلى معرفة جيّدة باللاعبين الأساسيين فيه بقدر أسلافه. فما الذي كان كيري يجهله إذاً، وأدّى إلى فشل عملية السلام أخيراً؟ هل تبيّن أنّ صيغة الاتفاق على وضعية دائمة هي أكثر تعقيداً ممّا تخيّله رجل الدولة المطّلع هذا؟ من المرجّح أن يكون هذا هو الحال لأنّ تصميم اتفاق السلام الإسرائيلي- الفلسطيني معروف جيّداً ومقبول بشكل أوسع من أيّ نزاع دولي آخر. وباتت معرفة الجميع بالشكل الذي سيكون عليه الاتفاق الإسرائيلي-الفلسطيني أمراً شائعاً منذ سنوات عديدة. كان الجميع تقريباً على اطلاع بكلّ تفصيل مرتبط باتفاق الوضعية الدائمة منذ أن قدّم الرئيس كلينتون صيغته لاتفاق السلام في كانون الأوّل (ديسمبر) 2000 مع العلم أنّ أحداً، بمن فيهم كيري، لم يحد قيد أنملة عن هذه الخطة. طالما اعتبر المجتمع الدولي أنّ عملية السلام هي «ملك» أميركا، ليس لأنّ رجال الدولة فيها يتحلّون بحكمة أكبر من رجال الدولة الآخرين بل لأنّها وحدها قادرة على التأثير في إسرائيل وعلى سياسات الدولة اليهودية. وما من بلد آخر قادر على التأثير فيها بسبب السخاء الأميركي تجاه هذه الدولة على مدى عقود والذي تبلور على شكل مساعدات عسكرية واقتصادية غير محدودة. والأهم هو أنّ أميركا حمت إسرائيل من محاولات المجتمع الدولي معاقبتها على خرقها المتكرّر للقانون الدولي بسبب مشروعها الاستيطاني في الضفة الغربية مع الإشارة إلى أنّ هذه الخروق استمرت حتى عقب استئناف محادثات السلام. وطالما افترض بعضهم أنّ واشنطن ستصل إلى مرحلة معيّنة ستستخدم خلالها التأثير الذي راكمته على مدى سنوات لإبلاغ حكومة إسرائيل أنها لم تعد قادرة على الدفاع عنها في وجه الانتقادات الدولية للاحتلال الذي تفرضه إسرائيل من دون أن يُلحق ذلك ضرراً بسمعة الولاياتالمتحدة وبمصالحها الوطنية. وحين تصل الولايات المتحدّة إلى هذه المرحلة، لن يكون أمام إسرائيل خيار آخر سوى الانسحاب من الضفة الغربية إلى خطوط ما قبل عام 1967 والإذعان لإجراء مقايضة متبادلة للحدود وتقديم ضمانات أمنية مناسبة. إلا أنّ لحظة الحقيقة هذه لم تصل أبداً ولا أحد يعتقد أنها ستصل في يوم من الأيام. لم تعد الولايات المتحدّة صانع السلام الأساسي فحسب بل باتت العقبة الأبرز التي تقف في وجه السلام لأنها تهدّد باستمرار باستخدام حقّ النقض (الفيتو) ضد كل الجهود الهادفة إلى السماح لمجلس الأمن بمعالجة مسألة قيام دولة فلسطينية أو تبنّي إطار عمل لاتفاق حلّ الدولتين. بالتالي، أصبح دور الولايات المتحدّة في صناعة السلام الإسرائيلي- الفلسطيني شبيهاً بدور ميكرونيسيا، وهي البلد الذي يملك سجل تصويت لمصلحة إسرائيل في الأمم المتحدّة يوازي سجل تصويت الولايات المتحدّة. انتقد المستشارون الرئيسيون للرئيس باراك أوباما، بمن فيهم بنيامين رودس، الإسرائيليين والفلسطينيين على عجزهم عن اتخاذ قرارات حاسمة. وعاد وزير الخارجية كيري إلى تكرار اللازمة القديمة القائلة إنه لا يمكن أن نكون نحن من يريد السلام أكثر من الفريقين المتخاصمين، وذلك في معرض تفسير الانقطاع الأخير في المحادثات. لكن هذه الذرائع غير مناسبة. فلو كان الفريقان قادرين على اتخاذ قرارات حاسمة بمفردهما، لكانا اتخذاها منذ زمن بعيد. منذ البداية، كانا بحاجة إلى فريق ثالث يثقان به ويخوّلهما القول لناخبيهما أنهما اضطرا الى «القيام بهذه التسويات المثيرة للجدل لأننا لو لم نقم بذلك لكنّا خسرنا الدعم الذي سيجعلنا غير آمنين وأسوأ مما نحن عليه اليوم». كان يجدر بالولايات المتحدّة إبلاغ إسرائيل أنّ حدودها تقع عند خط عام 1967 المحدّد بوضوح في قراري مجلس الأمن رقم 242 و339 وبأنّ الولايات المتحدّة والمجتمع الدولي لن يقبلا بالانحراف عن هذا المسار ولن يسمحا إلا بتبادل محدود للأراضي كما تمّ الاتفاق عليه سابقاً. كما كان ينبغي عليها إبلاغ الفلسطينيين أنّ اللاجئين لا يجب أن يتوقّعوا من إسرائيل سوى تقديم اعتذار صادق وتعويضات سخية عن الجرائم التي ارتكبتها بحقهم حين طردتهم من منازلهم وقراهم في المناطق التي حدّدتها خطة تقسيم فلسطين في الأممالمتحدة عام 1947 لإسرائيل ومن الأراضي التي تبعد عن هذه المناطق. لقد أخفقت جهود كيري لأنه بدلاً من إبلاغ الفريقين بأنّ الولايات المتحدّة تنوي إرساء خطوط حمر لاتفاق سلام، سمح لهما بأن يضعا خطوطهما الحمر في وجه إطار الاتفاق الأميركي. ومنخلال طمأنة إسرائيل مراراً بأنه لن ينشب خلاف بينها وبين الولايات المتحدّة، اعتبر قادة إسرائيل أنّهم اذا رفضوا اقتراحات أميركا وقاموا بأعمال تضرّ بمصالحها، فإن ذلك سيمرّ من دون تبعات. كان يجب أن يعلم كيري أنّ الولايات المتحدّة لا تملك دوراً في التوصل الى سلام إسرائيلي- فلسطيني إذا لم تكن مستعدّة لاستخدام النفوذ الذي تحظى به لإجبار الإسرائيليين على الالتزام بالاتفاقات السابقة والامتثال للقانون الدولي. ولا شكّ في أنّ أيّ حكومة أميركية تقرّر مطالبة إسرائيل جدياً بإنهاء الاحتلال ستتأثر شعبيتها في الداخل. لكن، من السخيف مطالبة الإسرائيليين والفلسطينيين بتقديم تضحيات مؤلمة لإنهاء هذا النزاع بينما نحن الأميركيين نرفض القيام بواجبنا الأقل إيلاماً الا اذا كان هذا الدور من دون اكلاف. صحيح أنّ أكثرية الإسرائيليين يخبرون ناخبيهم بأنّهم يفضّلون حلّ الدولتين. إلا أنّ ذلك لا يشكّل نقطة جذب سياسي عملياً، لأنّ معظم الذين يقولون ذلك يعتبرون إنّ إسرائيل لا تملك شركاء فلسطينيين يمكنها التوصّل معهم إلى حلّ الدولتين. فإيمانهم بحلّ الدولتين يرتكز على أسس دينية وليس سياسية. لا يزال ممكناً التوصّل إلى حلّ الدولتين في حال أخبرت واشنطن إسرائيل أنها ستضطر إلى معالجة تبعات الاحتلال وسياسات الاستيطان بمفردها. لكن، نظراً إلى إدمان سياسيينا على التملّق وعلى الفوائد الأخرى التي تقدّمها لجنة العلاقات العامة الأميركية-الإسرائيلية «آيباك» لدعم سياسات إسرائيل بشكل مطلق، بات الأمر شبيهاً بالمقولة القائلة إنّ الثلج سيتساقط في تموز (يوليو). ويبدو أنه يمكن بلوغ حلّ الدولتين في حال تمكّن الفلسطينيون من التحكّم بمصيرهم بدلاً من انتظار الفرج الإلهي من خلال إغلاق المؤسسات مثل السلطة الفلسطينية التي تخدم إسرائيل، ومن خلال إطلاق نضال غير عنيف مناهض للتفرقة العنصرية من أجل المساواة بين جميع المواطنين في إسرائيل الكبرى التي سيجبرون على العيش فيها. ومن شأن نضال مماثل إقناع الإسرائيليين بقبول حلّ الدولتين لأنّ خسارة هويتهم اليهودية في دولة واحدة يفوق فيها عدد المواطنين العرب عدد اليهود هو ثمن لن يدفعه الإسرائيليون لقيام إسرائيل الكبرى. وفي حال رفض الإسرائيليون قيام دولة فلسطينية حتى في وجه نضال مناهض للتمييز ويحظى بدعم دولي، توشك إسرائيل على خسارة صداقة أميركا ودعمها وهو ثمن ليس معظم الإسرائيليين مستعدين لدفعه من اجل قيام اسرائيل الكبرى. وفيما لم تتخلّ واشنطن عن إسرائيل بسبب خلافاتها الحالية حول حدود إسرائيل أو مكان تواجد عاصمة الدولة الفلسطينية المقسّمة، في إطار نضال من أجل الحقوق المتساوية، لا يمكن أن تدعم أميركا النظام العنصري الإسرائيلي لوقت طويل. والحقيقة هو أنّه تمّ إرساء نظام عنصري إسرائيلي واقعي منذ زمن، من دون أن تسميه أميركا باسمه الحقيقي. إذ ساهمت عملية السلام غير الصادقة في إخفاء هذا الواقع. ومن شأن نضال فلسطيني مناهض لنظام التمييز وضع حدّ لخيبة الأمل هذه. نوع المقال: الولاياتالمتحدةالامريكية الشرق الاوسط