في مقالات عديدة خلال الأشهر الماضية، كنا قد أكدنا على التحدي المتنامي الذي بات يواجهه العالم بخصوص الوصول إلى المياه العذبة. وفي هذا السياق، أعلن حاكم ولاية كاليفورنيا، في السابع عشر من يناير الجاري، عن حالة طوارئ بسبب الجفاف الذي يضرب هذه الولاية الأميركية خلال العام الجاري، والذي قد يكون الأسوأ على الإطلاق في تاريخها. ذلك أن درجات الحرارة المرتفعة بالنسبة لهذا الوقت من السنة، إضافة إلى الفترة الطويلة التي لم تعرف فيها تساقطات مطرية أو ثلجية هامة، أدت إلى انخفاض كبير في مستويات ثلوج الجبال وكميات المياه العذبة في كاليفورنيا. والأدهى من ذلك هو أن التوقعات المناخية لا تشير إلى وقوع تساقطات هامة في الولاية خلال الأشهر المقبلة، وهو ما يعني أن أكبر ولاية في الاتحاد من حيث المساحة وعدد السكان باتت في مأزق كبير. ومما لا شك فيه أن التأثير الاقتصادي للجفاف سيكون كبيراً وقاسياً بشكل خاص على المنتجين الزراعيين في منطقة «سانترال فالي» (أو "الوادي الكبير") في كاليفورنيا وأصحاب المنتجعات السياحية في الجبال بسبب تقلص زمن موسم الرياضات الشتوية بشكل كبير مقارنة بمثل هذه الفترة من السنوات السابقة. كما أنه من بين التأثيرات الخطيرة لموسم الجفاف أيضاً فشل وضعف العديد من المنتجات والمحاصيل الزراعية، وهو ما سيعني ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية في الأسواق بالنسبة لكثير من المستهلكين. والواقع أن أكثر من نصف أراضي الولاياتالمتحدة يعاني من الجفاف هذه السنة. وفي هذا الإطار، تُظهر «ذي يو إس دراوت مونيتور»، وهي نشرة رصينة تصدر عن وزارة الزراعة الأميركية ومؤسسات أخرى ذات مصداقية، في عددها للرابع عشر من يناير 2014، أنه من أصل فئات الجفاف الخمس، التي تتراوح بين الفئة الأولى -وهي الأقل خطراً وتسمى «جاف على نحو غير عادي»- إلى الفئة الرابعة المسماة «جفاف استثنائي»، فإن أكثر من نصف الولايات الأميركية باتت في مأزق حقيقي، هذا علماً بأن كاليفورنيا وولايات غربية أخرى تقع ضمن الفئة الرابعة. وإذا نظرنا إلى الأمر من الزاوية العالمية، فيمكن القول إن النقص المزمن في المياه العذبة الذي نجده في كثير من مناطق آسيا والشرق الأوسط وشمال وشرق أفريقيا وأجزاء من روسيا، أخذ يتحول إلى واحد من أخطر التحديات البيئية في القرن الحادي والعشرين، وذلك على اعتبار أن كميات المياه ليست آخذة في التقلص فحسب، بل إن هذا النقص يحدث في وقت يتزايد فيه الطلب على المياه العذبة بسبب أنشطة التنمية الاقتصادية والتعمير والنمو السكاني والحاجة المتزايدة إلى كميات ضخمة من المياه من أجل استخراج مصادر الطاقة من باطن الأرض، سواء أكانت فحماً أو غازاً أو نفطاً. وعلى سبيل المثال، فإن المتطلبات المائية بالنسبة للغاز الصخري واستخراج النفط، تعد متطلبات كبيرة بشكل خاص وتُعتبر من بين العوامل التي تكبح الحكومات عن القيام بمزيد من عمليات الحفر و«التكسير المائي» في أوروبا والصين وأميركا اللاتينية وأجزاء من الولاياتالمتحدة. ومما يُعقد الأمور أكثر هو أن ثمة القليل من الاتفاقيات الدولية التي تنظم تقاسم المياه بين الدول، لاسيما بخصوص نهري «الصين»و«جنوب شرق» الحيويين اللذين ينبعان من الهضبة التبتية الخاضعة لسيطرة جمهورية الصين الشعبية. وفي ذلك الإطار أيضاً نشير إلى أنه إذا كانت منطقة جنوب آسيا تستفيد من «الاتفاقية حول مياه إندوس» التي وُقعت بين الهندوباكستان في عام 1960، فإن بعض المجموعات المتشددة في باكستان أخذت تتهم الهند اليوم بسرقة المياه وتستغل هذا الموضوع لتسميم العلاقات أكثر بين البلدين. وفي أفريقيا، يجمع نزاع رئيسي حول السيطرة على مياه نهر النيل العديد من البلدان التي تنبع من أراضيها مياه النهر؛ غير أن التحديات الرئيسية اليوم تتعلق بقرار إثيوبيا بناء سد على هذا النهر الأضخم في القارة، أي «سد النهضة العظيم» الإثيوبي، الذي سيغير، على المدى القصير على الأقل، تدفق المياه نحو مصر. والحال أنه ليس من المبالغة القول إنه بدون النيل لن يظل لمصر وجود كمجتمع معاصر يتمتع بمستوى معقول من الأمن المائي والغذائي. ويمكن القول على العموم إن مشاكل نقص المياه العذبة، سواء في آسيا أم في أفريقيا، إنما تعزى إلى الحكامة السيئة بقدر ما تعزى إلى التنافس بين الدول، وعدم الرغبة في اللجوء إلى آليات أسعار من أجل خفض الطلب على ما يعتبره معظم الناس «سلعةً مجانيةً». والحال أن الفكرة المتمثلة في استعمال قوى السوق لفرض سعر مقابل الوصول إلى الماء، تُعتبر ضرباً من ضروب الانتحار السياسي في كثير من البلدان. وفي هذا الصدد، لابد من الاعتراف هنا بأن جنوب ولاية كاليفورنيا لديه نظام أكثر صرامة لإدارة المياه مقارنة مع معظم الولايات الأميركية الأخرى، بل ومعظم العالم. وسواء شئنا ذلك أم أبينا، فإن عقد مزيد من الاتفاقيات الدولية حول تقاسم المياه ورفع الأسعار مقابل استعمال المياه يعتبر أمراً ضرورياً إذا كنا نرغب في تجنب «حروب مياه» ما فتئت تزداد خطورة في مناطق حساسة من العالم هي في الأصل مُبتلاة بالكثير من المشاكل السياسية. نوع المقال: عام