"بورسعيد فدتكم؛ فدت مصر، فدت العرب، فدت الدول الصغرى التي تدافع عن الحرية والاستقلال.. بورسعيد دفعت ضريبة الدم... بورسعيد فى محنتها تفدى بدمائها مصر، تحمى شرفنا؛ شرف الوطن... بورسعيد ضحت وقاتلت... أظهرت بورسعيد للعالم أجمع أن مصر ستقاوم مقاومة مستمرة مستميتة؛ مقاومة بورسعيد واتحاد هذا الشعب كانت عوامل هزيمة الاستعمار فى خطته العدوانية". تلخص الكلمات السابقة، المقتطفة من خطاب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في الجامع الأزهر أثناء العداون الثلاثي على بورسعيد، حال هذه المدينة المصرية الباسلة التي ظلت على مدار تاريخها مقاومة للعدوان، صامدة، تقدم التضحيات لصالح الوطن، تعيش اليوم هذه المدينة محنة قاسية، ولكن التاريخ يؤكد أن المدينة التي قاومت وصدت الغزاة قادرة على تجاوز الفتنة والمحنة. نرصد خلال السطور التالية بعض من صفحات البطولة والمقاومة التي سطرتها "بورسعيد" في تاريخ الوطن: النشأة والتاريخ: انشئت مدينة بورسعيد عام 1859 في شمال شرق الدلتا على البحر الأبيض المتوسط عند مدخل قناة السويس غرب مدينة الطينة بثمانية وعشرين كيلو مترا . ويرجع أصل التسمية "بورسعيد" إلي اللجنة الدولية التي تكونت من إنجلترا وفرنسا وروسيا والنمسا وإسبانيا وبيد مونت حيث قررت هذه اللجنة في الاجتماع الذي عقد في عام 1855 اختيار اسم بورسعيد وهو اسم مركب من كلمة PORT ومعناها ميناء، وكلمة سعيد اسم حاكم مصر وقت بدايتها التاريخية. وقد سبق بورسعيد لهذا المكان ثلاث مدن قديمة نشأت قبل عدة قرون، الأولى هي مدينة "الفرما" على بعد حوالي 28 كلم من الموقع الحالي، وكانت مدينة هامة بها ثغر وحصن وسوق ومدخل لمصر وكانت في زمن الفراعنة حصن مصر من جهة الشرق، وفي عام 640 م استطاع الصحابي "عمرو بن العاص" أن يفتحها بعد حصارها لمدة شهرين ومنها بدأ فتح مصر، وفي عام 1118 م قام بلدوين الأول ملك بيت المقدس بتدمير المدينة تماما أثناء الحروب الصليبية. المدينة الثانية هي مدينة "تنيس"، كان بها ميناء هاما لتصدير المنتجات الزراعية المصرية وتعرضت للعديد من الغزوات إبان الحملات الصليبية وهو ما حدا بالسلطان الكامل محمد بن العادل الأيوبي في عام 1227م لأن يأمر بتدميرها وتهجير أهلها البالغ عددهم وقتها 50 ألف نسمة حتى لا يستطيع جنود الصليبيون الوصول عن طريقها للعاصمة أما المدينة الثالثة هي مدينة "الطينة" وهي نقطة عسكرية بين الفرما وتنيس وكان بها قلعة لحراسة وحماية الحدود وسميت بهذا الإسم نظرا لوقوعها في أرض تغمرها مياه البحر في بعض الأحيان. محطات من تاريخ النضال: بورسعيد والاحتلال البريطاني: بعد ضرب الأسطول الإنجليزي بقيادة الأميرال سيمور الإسكندرية وما تبع ذلك من عمليات حربية واحتلال ميناء السويس في 29 يوليو 1882 وجهت إنجلترا نظرها إلي مدينة بورسعيد ، وفي أغسطس 1882 أعطى قائد الحملة البريطانية على مصر الجنرال ولسلى أوامره بالسيطرة على قناة السويس واتجه أسطول إنجليزي من 22 سفينة إلي بورسعيد. وبعد مقاومة عنيفة واستبسال أهل بورسعيد في الدفاع عن أراضيها، استطاعت القوات البريطانية النزول إلى شاطئ بورسعيد حتى منطقة الجميل، ولكنها لم تستطع الاقتراب من قلعة الجميل ذات التحصينات القوية لجسارة قائدها البكباشى محمد نجم، كما استطاعت القوات المصرية بقيادة البكباشى محمد أبو العطا الصمود ضد قوات الغزو الإنجليزي ورفض تسليم المدينة، ونشبت بينها وبين الأسطول البريطاني المرابط على شاطئ البحر أمام بورسعيد العديد من المناوشات. ثورة 1919.. والشرارة الأولى: يرى بعض المؤرخين أن الشرارة الأولى لثورة 1919 انطلقت من بورسعيد، حيث انطلقت التظاهرات في المدينة احتجاجًا على نفي "سعد زغلول" ورفاقه (أحمد الباسل ، إسماعيل صدقي ، محمد محمود) الذين تم ترحيلهم إلي مالطا عن طريق بورسعيد في 8 مارس 1919 وكان الغليان الكبير في بورسعيد يوم الجمعة 21 مارس 1919 إذ نظمت مظاهرة كبيرة عقب صلاة الجمعة من الجامع التوفيقى وما أن وصلت المظاهرة إلي شارع محمد على حتى تصدت لها القوات البريطانية وأطلقت النيران على المتظاهرين فسقط منهم سبعة شهداء وسبعة عشر جريحًا. معارك القناة 1951: بعد إلغاء معاهدة 1936 المبرمة بين مصر وإنجلترا في 8 أكتوبر 1951 تأهب أبناء مدن القناة لاحتمالات التصعيد التي قد يتخذها المحتل البريطاني المرابط على امتداد قناة السويس، وبدأ أهالي منطقة القناة معاركهم بالمقاطعة السلبية، فانسحب العمال المصريين الذين كانوا يعملون بالمعسكرات البريطانية وقدروا بحوالي 60 ألف عامل وموظف كما قاطع ورفض سائقو القطارات وعمال السكة الحديد التعامل مع القوات البريطانية، وبعد فترة تحول الأمر إلى الكفاح المسلح ضد المحتل. وفي 16 أكتوبر 1951 اندلعت مظاهرة ضخمة في بورسعيد طافت شوارع المدينة، وتصدت لها مصفحات القوات البريطانية وأطلقت النار على المتظاهرين فسقط خمسة شهداء وجرح الكثير منهم واستمرت المعارك بين الشعب والقوات المعتدية قدمت فيها بورسعيد ومدن القناة الكثير من الشهداء، وانتهت تلك المعارك باستبسال رجال الشرطة بالإسماعيلية في يوم 25 يناير 1952. أصغر شهداء معارك القناة: يعتبر ابن بورسعيد "نبيل منصور" الذي لم يتجاوز الحادية عشر من عمره، أصغر شهداء معارك القناة عام 1951، حيث أراد أن ينتقم من قوات الاحتلال التي تقتل أهل مدينته، فتسلل بين الأسلاك الشائكة إلى أحد المعسكرات البريطانية وأشعل النار في الخيام، والتهمت النيران 20 خيمة، حتى كشفته قوات الاحتلال وأطلقت عليه الرصاص ليسقط شهيدًا. المدينة الباسلة والعدوان الثلاثي 1956: بعد إعلان الرئيس "عبد الناصر" تأميم شركة قناة السويس العالمية، شنت إنجلترا وفرنسا وإسرائيل عدوانها الثلاثي على مصر واستهدفت القوات الغازية مدينة بورسعيد، وشنت عليها الهجمات الشرسة المكثفة والتي كان أشدها يومي 5 و6 نوفمبر 1956، حيث تم إحراق أحياء بأكملها داخل مدينة بورسعيد وسقط آلاف من الشهداء والجرحى. وقد ضرب الشعب البورسعيدي في هذه المعارك أروع أمثلة الفداء والمقاومة، وانتهت تضحياته بجلاء القوات المحتلة في23 ديسمبر 1956 ليصبح هذا التاريخ عيدًا قوميًا للمدينة. لم تكن التضحيات في بورسعيد للرجال وحدهم، فكان للمرأة البورسعيدية دور كبير في صد العدوان ومكافحة المعتدين، ولعل بطولة "زينب الكفراوي" مثالا على ذلك، حيث لعبت دورًا كبيرًا في تجاوز الدوريات البريطانية ونقل الأسلحة والذخائر إلى رجال المقاومة الشعبية في أماكن كان يصعب عليهم الوصول إليها. معركة رأس العش وتدمير إيلات: شهدت رأس العش بالكيلو 14 جنوببور سعيد واحدة من المعارك الهامة ضد العدو الصهيوني، فلم يكد يمضى أيام معدودة على هزيمة يونيو 1967 حتى تقدمت قوة "إسرائيلية" مدرعة من القنطرة شرق جنوب بور فؤاد شمالا في الساعات الأولى من صباح أول يوليو 1967 لاحتلالها فتصدت لها فصيلة من قوات الصاعقة أنزلت بها خسائر جسيمة وعرفت تلك المعركة بمعركة رأس العش. وفي 21 أكتوبر 1967 تمكنت القوات البحرية المصرية المرابطة داخل ميناء بورسعيد من تدمير المدمرة إيلات وإغراقها على مسافة 11 ميل بحري شمال شرق بورسعيد وأعتبر هذا اليوم يوم البحرية.