انتهت السنة التي نظروا إليها، وسعوا في جعلنا ننظر إليها، على أنها (سنة الفرصة الأخيرة للسلام)، التي لكونها كذلك ينبغي لكل من يحتاج إلى السلام، وله مصلحة حقيقية فيه، أن يبذل وسعه توصلاً إلى اغتنام هذه الفرصة. وعلى صعوبة الأمر، من وجهة نظر الواقع وحقائقه، فليس ثمة ما يمنع كل من له مصلحة في الإبقاء على وهم السلام حياً في العقول والقلوب من أن يتخذ من (النجاح) في عقد لقاء أنابوليس دليلاً على نجاح ما بذل من جهود ومساعٍ لاغتنام تلك الفرصة، ومن أن يبث وينشر وهماً آخر هو أن الرئيس بوش لن يغادر البيت الأبيض قبل أن يترجم (النتائج الإيجابية (الورقية)) للقاء أنابوليس بما يقنع حتى الذين جبلوا على سوء الظن بأن السلام أصبح حقيقة واقعة، ولو من حيث الأساس على الأقل. قبل أنابوليس لم يكن من تفاوض سياسي (رسمي)، مدشن دولياً؛ أما بعده، وبفضله، فقد وقع هذا (الحدث التاريخي)، فهذا التفاوض مع (اللغم الكبير) الذي زرع في طريقه أصبح حقيقة واقعة؛ ولكن القضايا التي كان ينبغي لها أن تكون مدار التفاوض (النهائي والجاد والمكثف)، كالحدود، واللاجئين، والقدس الشرقية، لم تبحث؛ لأن الجهود التفاوضية والسياسية والدبلوماسية يجب أن تبذل الآن، أو من الآن وصاعداً، لنزع ذلك اللغم من طريق مفاوضات الحل النهائي، فاستمرار وتوسع النشاط الاستيطاني، غرب (الجدار)، وشرقه، لا يسمحان لتلك المفاوضات بأن تبدأ. والجدل الدائر الآن إنما هو الجدل في أمر تمييز، والاتفاق على تمييز، (الشرعي) من (غير الشرعي) في الاستيطان بحسب شريعة (خريطة الطريق)، فوزيرة الخارجية الإسرائيلية ليفني تفهم (الجدار) على أنه الحد الفاصل بين (الاستيطان الشرعي) و(الاستيطان غير الشرعي)، وكأن هذا (الجدار)، الذي أقيم ل(أسباب أمنية صرف)، على ما ادعت إسرائيل من قبل، هو الذي سيكون مستقبلاً الخط الحدودي بين الدولتين. ولقد قالت ردا على الاعتراض الفلسطيني على استمرار وتوسع النشاط الاستيطاني، بعد أنابوليس، إن إسرائيل قد وفت بالتزاماتها بموجب (خريطة الطريق) إذ أوقفت نشاطها الاستيطاني (شرق الجدار)؛ أما غربه فليس جزءاً من المنطقة التي يحظر عليها، بموجب تلك (الخريطة)، ممارسة نشاط استيطاني! وهذا إنما يعني أن (شرق الجدار) هو المشمول ب(خريطة الطريق)، استيطانياً، وأن (غربه) مشمول ب(رسالة الضمانات). قبل أنابوليس، وتهيئةً له، سعينا في تصوير الجرح العراقي للولايات المتحدة، ولإدارة الرئيس بوش على وجه الخصوص، مع ما تسبب به هذا الجرح من ضعفٍ في قدرتها على مواجهة التحدي النووي (وغير النووي) الإيراني، على أنه السبب الذي قد يحملها، أو يجب أن يحملها، على السعي إلى حل نهائي للنزاع بين الفلسطينيين وإسرائيل يكون أقل انحيازاً، لجهة نتائجه، إلى وجهة النظر الإسرائيلية، وكأن حلب (بقرة بوش)، بيدٍ عربية، هذه المرة، قد حان. إن هذا الواقع قد تغير الآن بما يجعل إسرائيل هي التي تعتقد بأن حلب (بقرة بوش) يمكن ويجب أن يكون بيدها، وليس بيدٍ عربية؛ وقد أوضح ذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي إذ قال إن لإسرائيل مصلحة حقيقية وكبرى في أن تتوصل إلى (اتفاق) مع الفلسطينيين قبل مغادرة الرئيس بوش البيت الأبيض، معتبراً أن ما يشبه (العناية الإلهية) هو ما جعل إسرائيل في (وضع دولي) هو الأفضل في تاريخها، فبوش يحكم الولاياتالمتحدة، وساركوزي يحكم فرنسا، وميركل تحكم ألمانيا، وبروان يحكم بريطانيا. وهذا إنما يعني، بحسب تصور رئيس الوزراء الإسرائيلي، أن إسرائيل هي الآن في (ظرف دولي) يسمح لها بالتوصل إلى أفضل حل، من وجهة نظرها، لنزاعها مع الفلسطينيين. ويشرح لنا مستشار بوش لشؤون الأمن القومي ستيفن هادلي على خير وجه (المنطق السياسي الاستراتيجي) الكامن في سعي إدارة الرئيس بوش إلى حل لهذا النزاع قبل انتهاء ولايتها، فالفلسطينيون ليس لهم من (الحل) إلا إذا كان جزءاً من الطريق المؤدية إلى (الحفاظ على إسرائيل مكاناً آمناً للشعب اليهودي). هادلي فهم (الانسحاب الإسرائيلي)، أي إخراج كل المستوطنين والجنود الإسرائيليين، من قطاع غزة على أنه (إنهاء لفكرة إسرائيل الكبرى)، مشيراً إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي (وفريقه الحكومي) يفهم الآن أن فكرة إسرائيل الكبرى لا مستقبل لها، وأنه إذا أراد الإبقاء على إسرائيل مكاناً آمناً للشعب اليهودي فيجب أن يكون هناك فلسطين باعتبارها وطناً للشعب الفلسطيني. إن فلسطين هذه، وبحسب تصور هادلي، ليست حقاً قومياً (شرعياً) للشعب الفلسطيني، وإنما شرط، مكرهةٌ إسرائيل على تلبيته إذا ما أرادت أن تبقى مكاناً آمناً للشعب اليهودي. وعليه، لن يعطى الفلسطينيون مما ينظرون إليه على أنه حق قومي وتاريخي لهم إلا إذا كان من شأن ذلك تذليل العقبات من طريق تحقيق (الهدف النهائي) ل(السلام)، وهو (بقاء إسرائيل مكاناً آمناً للشعب اليهودي). وعلى المعاناة الفلسطينية، في أوجهها كافة، أن تستمر وتعظم حتى يفهم الفلسطينيون حقوقهم القومية على أنها كل ما يمكن أن (تعطيهم إياه) إسرائيل (بالتعاون مع الولاياتالمتحدة وغيرها) توصلاً إلى أن تبقى مكاناً آمناً للشعب اليهودي. ولهذا (الحل)، على ما أوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي، فرصته الذهبية في البقية الباقية من ولاية الرئيس بوش الذي لم يبق لديه من شيء ينجزه حتى نهاية ولايته سوى إهداء إسرائيل هذا السلام، وكأن عجزه في العراق، وعجزه عن مواجهة التحدي النووي الإيراني، يجب ألا يعجزاه عن جعل العرب والفلسطينيين عاجزين عن رفض ومقاومة هذا (الحل الهدية). وأحسب أن خير عمل يمكن أن يقوم به الفلسطينيون والعرب من الآن وصاعداً هو ما يؤدي إلى الحيلولة بين الرئيس بوش وبين إهدائه هذا الحل لإسرائيل، فليس في ما بقي من ولايته من فرصة إلا للسلام الذي من حجارة ما بقي من حقوق ومطالب قومية للشعب الفلسطيني يبتني إسرائيل بوصفها (دولة للشعب اليهودي ومكاناً آمناً له). * كاتب فلسطيني الأردن