أصبح الاقتصاد الأميركي الذي كان موضع حسد الآخرين ينظر إليه الآن في شتى أنحاء العالم بعين الريبة والشك. فقد باتت الولاياتالمتحدة مكبلة بجبال ثقيلة من الديون التي تهدد رخاءها بل وبصدامات مع اقتصاديات العالم الخارجي. والأزمة العقارية الحالية التي تشهدها الولاياتالمتحدة والتي نجمت عن سياسات إقراض غير مسؤولة كان هدفها إغداق العمولات على الوسطاء تنذر بمشكلات أكثر عمقا للاقتصاد الاميركي. وبالطبع فإن ذلك أصبح أمرا لا يجهله العالم الخارجي. وتلك الحقيقة الجديدة لها تأثيرات جانبية سيئة تتجاوز حدود المجال الاقتصادي. وكمصرفي يعمل في إحدى دول العالم الإسلامي لطالما أدهشني عمق التوجه المعادي للولايات المتحدة حتى وسط حلفاء أميركا وهو الأمر الذي ينعكس في ردود أفعال متباينة ملؤها الحنق والغضب. فالمسلمون خارج الولاياتالمتحدة ينظرون الى السياسات الأميركية في الشرق الاوسط على أنها ليست رغبة في نشر الديمقراطية ولكنها محاولة للهيمنة الاستعمارية في ثوب جديد بحثا منها عن حل لمشاكلها الاقتصادية عن طريق القوة. وهناك رؤية مشتركة بين العرب والايرانيين على أن انعدام المسؤولية المالية للولايات المتحدة قد أجبرها على السعي للبحث عن حلول من خلال الاعتداءات العسكرية. ويعتقد كثيرون أن تخبط أميركا في مغامرتها المضللة في العراق كان محاولة يائسة لكي تبسط هيمنتها على مصدر للنفط الرخيص وسوق واسع للصادرات الأميركية. وتقترض الولاياتالمتحدة يوميا 2.5 مليار دولار من الخارج لخدمة ديونها المتراكمة. ولكي تستمر في الاقتراض بمعدل فائدة مقبول نجد ان أميركا بحاجة الى استعادة مصداقيتها مع الدائنين في الخارج خاصة دول الشرق الأدنى التي تتمتع بفائض تجاري كبير. وليس ثمة شك أن وقف الإقراض الأجنبي من شأنه أن يؤدي الى رفع قسري في معدلات الفائدة لجذب الأموال والتعجيل بانهيار السوق العقاري المتردي والدفع بالاقتصاد الأميركي الى الركود. وذلك هو السبب أن الصين على وجه الخصوص تهدد بالانتقام ضد أية عقوبات اقتصادية تنوي الولاياتالمتحدة فرضها بخفض سنداتها التي تبلغ قيمتها 1.3 ترليون دولار. والحقيقة فإن وضع الدين الأميركي مزرٍ للغاية الى درجة أن الصينيين ليسوا في حاجة الى اغراق الدولار للتعجيل بانهياره ولكن يكفيهم أن يمتنعوا عن الاستمرار في تقديم القروض. كما يمكنهم التوقف عن شراء المزيد من سندات الخزانة. فالصين لها اليد العليا والتهافت على سحب الدولار من شأنه ان يقلل فقط من فائض العملة الورقية لدى الصين بينما سيزيد من عبء الدين الأميركي ويصل به الى مستويات فلكية. والدين الاميركي يؤثر في جميع الدول ولكن هذا التأثير يأتي في صور متباينة بشكل يثير الدهشة. فالمزارعون في دول العالم الثالث يعانون من آثار المساعدات الأميركية للمزارعين هناك والتي تهدف الى تقليص العجز التجاري في الوقت الذي استفادت فيه روسيا فعليا من قلة التنظيم لدى الولاياتالمتحدة. وتنظر روسيا الى الحساسية الأميركية التي تنظر بها الى سياستها التوسعية في مجال الطاقة على أنها نتيجة للإخفاق الأميركي في تقليص فاقد الطاقة لديها والاستفادة من موارد الطاقة البديلة عندما يتسنى لها ذلك. وبالإيجاز فإن ضعف الاقتصاد الأميركي أصبح مصدرا لقوة روسيا. ويرى بعض الاقتصاديين الأميركيين أنه لا توجد غضاضة في الاستمرار في الاستدانة بيد أن ذلك يكون مقبولا طالما أن هناك عائدا مردودا تستفيد منه الأمة ومستهلكوها وراء ذلك. والسؤال ما الذي جناه الأميركيون وراء هذا الجبل من الديون المتراكمة عليهم؟ هناك بنية أساسية متعثرة وقاعدة صناعية تراجعت بنسبة 60% منذ الحرب العالمية الثانية وتزايدت فجوة الثروة ووصل معدل مدخرات المستهلك الى أدنى مستوى لها منذ عدة عقود وهناك 50 مليون أميركي بدون تأمين صحي كما ان النظام التعليمي آخذ في التراجع وبات السفر الى الخارج يمثل ترفا في ظل انكماش الدولار. والشيء الهام أن الولاياتالمتحدة في أزمتها تبحث عن الحلول لمشاكل ديونها ولكن في الاتجاه الخاطئ. فعائد المسؤولية المالية كان يمكنه ان يجعل الولاياتالمتحدة في صورة أقوى داخليا وخارجيا إلا أن السياسة القائمة حاليا تعرض لمشروع قوة زائفة من خلال تهديدات جوفاء بدعوى الحماية ناهيك عن التمددات العسكرية الفاشلة. والتوتر الحالي بين الولاياتالمتحدة وباقي العالم سوف يستمر طالما أن صوت الآلة العسكرية الأميركية يعلو فوق قوتها الاقتصادية. وحل مشكلة الدين الأميركي يتطلب اجراءات منها القضاء على ثغرات ضريبة الشركات واعادة النظر في الإعفاءات الضريبية لكبار الأثرياء الى جانب تقليص واسع للانفاقات العسكرية واضافة ضريبة وقود نصف دولار لكل غالون يمكن أن تعوض من العجز الفيدرالي وخفض الطاقة المهدرة واطلاق الإنجازات التقنية. ولنأمل أن الولاياتالمتحدة تأخذ تلك التحذيرات بجدية اكبر وأن تتخلى عن سياسة اقتصاد الوجبات السريعة وتنهج حمية قاسية للنظام المالي. ولا تزال أمامنا الفرصة للنظر ما إذا كانت القيادة الأميركية لديها من الشجاعة ما تدفعها الى المضي في تلك الاصلاحات وما إذا كان الكونغرس سيحرص في النهاية على القيام بشيء من اجل مستقبل الأميركي الكادح. * اقتصادي ومصرفي مقيم في طهران