بعودة الوفد الأمني المصري إلى قطاع غزة يمكن القول إن نافذة الحوار بين الرئيس الفلسطيني وحركة حماس قد آذنت بالانفتاح على قاعدة لا غالب ولا مغلوب كما ذهب عدد من قادة حماس، لاسيما بعد أن أثبتت الأيام الماضية أن تشدد قيادة السلطة في موضوع الحوار مقابل إصرار الطرف الآخر عليه، لم يعد عليها بالخير؛ لا في الأوساط الشعبية المحلية، ولا في الأوساط العربية بشقيها الشعبي والرسمي.
قبل أيام تحدث أحد قياديي حركة حماس لفضائية عربية عن الوضع الأمني في قطاع غزة فقال إن المقار الأمنية وأسلحة عناصر الأمن هي وديعة بيد حركة حماس ستعود إلى أصحابها بعد تسوية الملف عبر الحوار، وقد وصف قيادي فتحاوي ساخط موقف الرجل بأنه تنازل مجاني من طرف حماس ما كان ينبغي أن يدفع مقدما على هذا النحو!!
لا خلاف على أن حماس تعيش مأزقاً واقعياً بعد سيطرتها على قطاع غزة، لكن مأزق الطرف الآخر يبدو أكثر وضوحاً؛ هو الذي يعتبر نفسه القائد الحقيقي للشعب الفلسطيني (الشرعية بتعبير البعض)، ليس تاريخياً فحسب، وإنما حاضر ومستقبل أيضاً، ومن يرى نفسه كذلك لايمكن أن يخرج كل يوم بقرارات تؤكد فصل جناحي الوطن عن بعضهما، وتمس جزءاً حيوياً من شعبه على نحو ما تفعل حكومة الطوارئ التي يبدو أن رئيسها قد نسي نفسه وبدأ يتعامل مع الموقف بوصفه حاكماً عسكرياً، وليس بوصفه رجلاً مستقلاً أو "تكنوقراط" جيء به من أجل الملف المالي لا أكثر، الأمر الذي انعكس كما يبدو على بقية وزرائه، لاسيما وزير الإعلام الذي يخرج على الملأ بين يوم وآخر ليعلن القرارات الجديدة وليعيد التأكيد على رفض الحوار مع "الانقلابيين".
تزداد عبثية هذا الموقف من طرف قيادة السلطة وضوحاً في ظل انسداد الأفق السياسي مع الإسرائيليين، بل حتى ما هو دون الأفق السياسي ممثلاً في بعض الحوافز التي يمكن أن تمنح للفلسطينيين، مثل الإفراج عن أموال الضرائب المحتجزة (يفرج عنها بالتقسيط)، وعن بعض الأسرى (الإفراج عن 250 أسيراً من فتح دون سواها، سيكون أغلبهم ممن شارفوا على إنهاء محكومياتهم، يشكل إساءة لقيادة السلطة وليس العكس)، فضلاً عن وقف الاجتياحات والاغتيالات، والأهم وقف مسلسل الاستيطان وبناء الجدار وتهويد القدس.
نعم، لم توفق قيادة السلطة في موقفها الرافض للحوار، لاسيما حين أكدت حماس أن ما جرى كان خطوة أمنية وليست سياسية، فيما خرج قادة في فتح مثل هاني الحسن ليؤكدوا أنها كانت خطوة استباقية ضرورية لمواجهة مخطط أمريكي (دايتون) كان يمكن أن يغرق القطاع في دوامة الحرب الأهلية، ثم جاء الموقف العربي (المصري السعودي) ليؤكد للجميع أن رفض الحوار لا يمكن أن يكون عملاً صائباً بحال، لأن ترك القطاع يغرق في بحر الحصار والعقوبات الإسرائيلية مع إضافة نكهة فلسطينية تتمثل في وقف العمل بجوازات السفر القديمة ووقف رواتب الآلاف من الموظفين مع شيء من العبث بملف المعابر، كل ذلك لايمكن أن يفضي إلى حل عملي للأزمة؛ ليس فقط بسبب مخاطر انتشار القاعدة في القطاع على الحدود المصرية، بل أيضاً لأن حماس في غزة ليست مجموعة ضباط انقلابيين يمكن لجهة ما أن ترتب مخططاً مضاداً للتخلص منهم، يتمثل في استعادة مبنى الإذاعة والتلفزيون ومبنى الرئاسة من بين أيديهم ثم تنقضي اللعبة وكفى الله المؤمنين القتال. حماس ليست كذلك، بل هي حركة متجذرة في ضمير قطاع عريض من الناس لا يمكن اقتلاعها بحال من الأحوال؛ لا بحسم عسكري ولا بقوانين ولا بعقوبات وحصار.
في الواقع الشعبي أيضاً يمكن القول إن قيادة السلطة قد خسرت الكثير خلال الأيام الماضية بتأكيدها المتواصل على رفض الحوار وركونها إلى الدعم الأمريكي الإسرائيلي، ولو أجريت انتخابات جديدة خلال الأيام القادمة لما اختلفت النتيجة عن تلك التي كانت خلال انتخابات فبراير من العام الماضي، وإذا قيل إن تكريس نظام القائمة النسبية من دون الدوائر سيغير النتيجة لصالح فتح حتى لو حصلت حماس على نسبة أكبر بقليل (نسبة حماس في الانتخابات الماضية هي 44% مقابل 41% لفتح)، الأمر الذي يبدو صحيحاً من الناحية الرقمية، فإن تطبيق هذا النظام يتطلب انقلاباً عاماً على اللعبة الديمقراطية يلغي المجلس التشريعي الحالي من دون سند قانوني، فيما سيكون بوسع حماس أن ترد بطرح مرشح للرئاسة أيضاً حتى لو عوّل البعض على صفقة إخراج البرغوثي من السجن بهدف حل هذه المعضلة، وهي صفقة ستثير حساسيات معروفة في الشارع الفلسطيني، وقد تخالف نتائجها المتوقع. كل ذلك بالطبع في حال وافقت حماس على مبدأ الانتخابات أو فرض عليها بشكل من الأشكال، الأمر الذي يبدو مستبعداً في واقع الحال.
في ضوء ذلك لا حل سوى العودة إلى طاولة الحوار من أجل استعادة اتفاق مكة ومبدأ الشراكة السياسية التي نص عليها، وبالطبع بعد إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية على أسس جديدة تحاصر الانفلات الأمني الذي أرهق الفلسطينيين ودفع وزير داخلية سابق وعضو لجنة مركزية في حركة فتح (نصر يوسف) إلى وصف تلك الأجهزة، أو بعضها بأنها أقرب إلى العصابات وتجار المخدرات.
إذا سارت قيادة السلطة وفتح في هذا الاتجاه، فسيكون مسارها الأفضل لاستعادة المجد المفقود هو انتظار جولة الانتخابات القادمة بعد عامين ونصف، حتى لو تم ذلك بذات القانون الانتخابي، ولابد بالطبع من قدر من الفهلوة والتزوير يمكن توفيرها من خلال الخبرات العربية، لكن الأفضل لجميع الفلسطينيين هو القناعة بلا جدوى التقاتل على جلد الدب قبل صيده، والكف عن المراهنة على العملية السياسية التي جربت من خلال مسار أوسلو وانتهت في كامب ديفيد عام 2000 وكانت مقدمة لانتفاضة الأقصى. لن نتحدث عن المطلب الأكثر جدوى لمسيرة النضال الفلسطيني، ممثلاً في حل السلطة التي تأكد العقلاء أنها مصلحة سياسية واقتصادية وأمنية للطرف الإسرائيلي أكثر منها للفلسطينيين، وسنكتفي بالحديث عن حكومة شراكة وطنية عنوانها المقاومة، ولو في الحد الأدنى؛ تستثمر الأجواء المتاحة في التصدي للإجراءات الإسرائيلية، مع رفع شعار مرحلي هو دحر الاحتلال عن الضفة والقطاع من دون قيد أو شرط.
هل يبدو ذلك ممكناً؟ كلا مع الأسف، لذلك سيستمر وضع المراوحة إلى أن تتوافر لقيادة السلطة فرصة تغيير المعطيات القائمة، أو تتوافر معطيات محلية وعربية وإقليمية ودولية تسمح بالعودة إلى مسار المقاومة بصرف النظر عن قناعات تلك القيادة التي ستضطر إلى التعامل مع الواقع الموضوعي على الأرض.