لندع لعبة البروباغاندا السياسية التي يمارسها البعض بحق حركة حماس، فالممارسات المحدودة التي يستغلها البعض في اللعبة هي من النوع الذي ترفضه الحركة وتراثها، وهي محض ممارسات فردية أساءت أكثر ما أساءت للحركة وجماهيرها، من دون أن يعني ذلك نهاية العالم، لاسيما أن ما جرى كان رداً على مسلسل انقلابي لم يقصر في التجاوزات والجرائم، ولدى الحركة (حماس) قائمة طويلة من الجرائم التي ارتكبها الطرف الآخر طوال شهور، وهي جرائم لم توفر؛ لا الخطباء ولا المساجد ولا المجاهدين ولا الصحفيين.
لندع ذلك كله ونسأل ما الذي يريده هؤلاء الذين يعلنون رفض الحوار، أعني قادة السلطة وحركة فتح ممن أجمعوا على نحو بالغ الغرابة على رفض أي حوار مع حركة حماس، وصولاً إلى وصف الرئيس الفلسطيني لها بالخيانة وبأنها حركة تكفيرية، وحين حاول إبداء اللين في إحدى فقرات الخطاب وضع قائمة من الشروط الرهيبة التي لا يمكن لها قبولها لأنها محض إذلال ستدين من خلالها نفسها وتضع حاضرها ومستقبلها رهن المحاكمة بين يدي قيادة السلطة.
نعم ما الذي يريده هؤلاء الذين يرفضون الحوار، ومنذ متى يقفلون أبواب الحوار مع أحد؛ هم الذين لم يقفلوه مع الدولة العبرية على رغم قائمة لا تحصى من الجرائم منذ عقود إلى الآن، وها هم يفتحون أبواب الحوار من دون شروط على رغم أحد عشر ألف معتقل يرزحون في سجون الاحتلال وتعشش قضيتهم في كل بيت من بيوت الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
لقد شكل هؤلاء حكومة طوارئ خارج سياق القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية، ولم يلتفتوا للمجلس التشريعي، أما الأسوأ فهو ما فعلوه وما زالوا يفعلونه في الضفة الغربية من حرب على حركة حماس وكوادرها ومؤسساتها، إذ يلاحق أعضاء الحركة على الهوية وتحرق مؤسساتها على نحو هستيري، بما في ذلك بيوت المجاهدين، كما وقع مع رئيس المجلس التشريعي الدكتور عزيز الدويك المعتقل في سجون الاحتلال.
في الضفة الغربية اليوم حرب مثيرة على حركة حماس بحجة عدم السماح بتكرار ما جرى في قطاع غزة، وهي ملاحقة تعني مطاردة أي شاب يفكر في مقاومة الاحتلال، بل هناك نوايا أسوأ من ذلك، إذ تحدث الرئيس عن الجامعات وعن المساجد كمصادر للفكر الظلامي، ما يعني أن هناك نوايا لمطاردة الحركة؛ ليس على مستوى النشاط العسكري، بل على مستوى النشاط السياسي أيضاً. يحدث ذلك فيما قادة فتح يتحركون بحرية في قطاع غزة.
ما قاله الرئيس الفلسطيني كان غريباً، بل بالغ الغرابة، لاسيما أن الخطاب الآخر تجاه الاحتلال كان مختلفاً، إذ لم ترد فيه كلمة مقاومة، بل كلام عن التفاوض من دون شروط مسبقة. وحين نتأمل في المسار العام المتوقع بعد ما جرى في الضفة الغربية فلن نعثر على سوى الدولة المؤقتة التي يعلن الرئيس رفضها، وهو رفض بلا قيمة ما دام المسار المشار إليه هو المتوافر في الدوائر الإسرائيلية الأمريكية، وحين تعرض تل أبيب على قيادة السلطة نقل تجربة قطاع غزة (الانسحاب) إلى الضفة الغربية، فلا يتوقع أن يكون هناك رفض من طرفها، لاسيما أن مطاردة المقاومة في الضفة تشير إلى شيء من ذلك. وهنا نتذكر ما جرى في مرحلة أوسلو إذ قدم رأس المقاومة على مذبح المفاوضات، والآن يمكن تكرار التجربة، بل إن كافة المؤشرات تقول ذلك.
هناك بالطبع السؤال المتعلق بقطاع غزة وما يمكن أن يحدث له في ظل الوضع الجديد، وفي حين ذهب الرئيس الفلسطيني وسواه من المتحدثين باسم السلطة إلى ضرورة أخذ احتياجات القطاع بعين الاعتبار، إلا أن لغة رفض الحوار وحكاية تقديم قيادات حماس إلى العدالة الدولية، فضلاً عن إلغاء جوازات السفر القديمة، كل ذلك يؤكد أن الحصار هو المآل الطبيعي للقطاع، وإن كان حصاراً متدرجاً أو في سياق الحد الأدنى القائم على الابتزاز المتواصل لحركة حماس، والأسوأ أن يتم ذلك بالتعاون مع الدولة العبرية، ثم مع مصر التي لا تبدو مرتاحة لفكرة لجنة تقصي الحقائق التي أقرها وزراء الخارجية العرب، بدليل قمة شرم الشيخ التي تنعقد اليوم لدعم عباس ومطاردة حماس.
هنا نشير إلى أن الرئيس الفلسطيني لم يأت على ذكر اللجنة المشار إليها، وذلك فيما يبدو نوعاً من الرفض لها، لاسيما أن مستشاره المقرب (ياسر عبد ربه) قد سبق ورفضها، فيما نعلم أن اجتماع وزراء الخارجية العرب قد شهد جدلاً حول الموقف مما يجري، ولولا الموقف السعودي ومعه بعض المواقف العربية الأخرى لما كان بالإمكان تمرير الموقف الوسطي الذي صدر.
حماس بدورها متمسكة بالوساطة العربية، وهي تملك الاستعداد للتجاوب معها، لاسيما أنها لم تذهب في الاتجاه الذي ذهبت إليه إلا من أجل العودة إلى اتفاق مكة، وليس من أجل إنشاء إمارة ظلامية في القطاع كما ذهب الرئيس في خطابه أكثر من مرة، وعلى نحو تحريضي للخارج أكثر من الداخل.
ما ينبغي أن يكون واضحاً هو أن الحوار، والحوار وحده، ومن دون شروط مسبقة هو المسار الوحيد الممكن في الساحة الفلسطينية، إذ ليس بوسع السلطة وقيادتها أن تلغي حركة حماس، وقد سبق لها أن جربت ذلك أيام أوسلو فلم تزد حماس إلا شعبية وحضورا. والحركات الأيديولوجية الاجتماعية المتجذرة في واقع شعبها ومؤسساته لا يمكن إقصاؤها أو إلغاؤها بهذه السهولة، والنتيجة أن الحوار هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق مصالح الشعب الفلسطيني، أما إذا أراد البعض الاستقواء بالعدو من أجل إقصاء خصمه فسيكتشف عبث ما يفعل، ليس فقط لأن خصمه أكبر من الإلغاء والإقصاء، بل أيضاً لأن العدو الذي يراهن عليه لن يعطيه شيئاً يحفظ ماء الوجه.
بقي أن ندعو عقلاء فتح إلى التدخل للجم لغة الثأر والإقصاء في الحركة، مع العلم أن ما جرى في المجلس المركزي للمنظمة كان مؤسفاً أيضاً، إذ شرّع لإلغاء المجلس التشريعي وتغيير قانون الانتخاب، والأسوأ لمطاردة قوى المقاومة عبر الحديث عن حل المليشيات في مناطق ما زال الاحتلال يعيث فيها فساداً كل يوم.