أصبح إختلاف المسلمبن حول معنى الشريعة الإسلامية شديدا وأصبح اللفظ نفسه مستهجنا عند البعض -يرفضه جملة وتفصيلا بإعتبارالشريعة قرينة للتخلف. وبما أن لفظ الشريعة قد جرى اليوم على كل لسان وتصايحت به الجموع فى الشوارع بل وتشابكت بسببه بالأيدى والسلاح وكادت المطالبة به أن تمزق نسيج هذه الأمة، فالأولى بنا عموما - وفى المجتمع الأكاديمى خصوصا - أن نطرح مفهوم الشريعة للنقاش لعل الإتفاق على بعض جوانب معانيها ومقاصدها أن يخفف من حدة الإحتقان المتزايد ويجمع الفرقاء على أفضل بنوده. ولا أرى حرجا من النقاش الموضوعى الهادف لهذا الأمر، بل أرى أن الدعوة لمثل هذا النقاش هى فى الحقيقة تفعيل لأحد المعانى القرآنية التى تفيد بأن تصادم الأفكار بين الناس هو ما يدفع بعجلة الحياة نحو الأفضل (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض).
قد يخيل للمرء الذى لم يقرأ القرآن ويسمع فقط هتافات الناس الهادرة بمطلب تطبيق الشريعة أن هذا اللفظ قد تردد فى القرآن عشرات المرات ووردت بشأنه تفاصيل لكل ما يتضمنه من أحكام ومبادئ أخلاقية. لكن الأمر ليس كذلك. فقد ورد هذا اللفظ فى القرآن مرتين فقط. واللفظ يعنى مجرى الماء (مثل شريعة الفرات). فالشريعة بهذا لا تقيد حرية حركة الماء إلا على ضفتى المجرى فقط.
أما الآيتان فالأولى فى سورة المائدة "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فى ما آتاكم فاستبِقوا الخيرات" والثانية فى سورة الجاثية "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فإتبعها ولاتتبع أهواء الذين لايعلمون". الأولى تفيد أن الله (سبحانه) قد إختار للمؤمنين من كل أمة شريعة وأن إختلاف هذه الشرائع هى إمتحان لهم لكى "يستبِقوا الخيرات"، أى لكى يسارعوا فى إظهار أفضل الخُلق والسلوك فى لحظات الخلاف. والثانية تقيد بأن المؤمنين مطالبين بإتباع شريعة الله وتجنب الهوى عموما. ومن هذا النص يمكن القول بأن الشريعة الربانية هى المسار المعاكس لمسار الهوى البشرى فى الأمور التى نصت عليها الشريعة (وسنلقى الضوء على بعض هذه الأمور فى مقال آخر). وبما أن الهوى هو كل ما يُعلى المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، فالشريعة التى تسير فى عكس هذا الإتجاه لابد أن تكون قد إستهدفت إعلاء المصلحة العامة لتحد من طغيان الهوى (المصلحة الخاصة).
إذا إتفقنا على هذين المبدأين: أولا أن الشريعة الإسلامية لاتنفى الشرائع الأخرى وأن التعايش بين الشرائع هو من حكمة الله لكى "نستبق الخيرات: يعنى نتسابق إليها" ، وثانيا أن المقصد الأساسى للشريعة هو المصلحة العامة المنزهه عن الهوى. فقد نكون قد حددنا مدخلا "توافقيا" للمناقشة.
ومن الطبيعى أن يكون السؤال المبدئى هو عن محتوى الشريعة بشكل عام ومصادر هذا المحتوى. وفيما تبقى من هذا المقال ومضات تلقى الضوء على مفاتيح الإجابة وليست الإجابة نفسها. وربما أطرح لمحات الإجابة فيما بعد وأكتفى هنا بما ينفع على هوامش الموضوع.
الشريعة كما هو معلوم تتناول جانبين: جانب القيم الأخلاقية وجانب الأحكام. لكن ذكرها يستحضر غالبا جانب الأحكام - وأحكام العقوبات بالذات - من الجَلد إلى قطع اليد والنفى ورجم الزناة وهكذا. وقد إستقر هذا الفهم لدى جموع كثيرة من الناس فى الغرب حتى أصبح لفظ الشريعة مرادفا للتخلف والعنف. الجانب الخاص بالأخلاق لابد أن أن يأخذ مساحة أكبر بكثير من الحديث فى الظروف التى تمر بها مصر. لكن يبدو أن الدعاة ومن خلفهم الجموع لايريدون التنازل عن الترويج لجانب الأحكام.
هذا المقال هو دعوة لمن يتفضل بالمشاركة فى حوار حول هذا الموضوع بأن يطرح من أولويات الشريعة ما يدعم جانب القيم الإنسانية. فالشريعة الإسلامية تتضمن الكثير عن الحريات العامة (وبالذات حرية العقيدة) ومبادئ العدالة الإجتماعية والمساواة (وبالذات بين الرجل والمرأة) وحقوق الأقليات وتوزيع الدخل القومى (لكى لا يكون (المال) دولة بين الأغنياء منكم) وقدسية الجسم البشرى التى تستوجب تجريم التعذيب فى سجون الدولة وهكذا. وهذا هو صلب موضوع المناقشة المنشودة.
على هامش الموضوع لابد من التذكرة بما هو معلوم بالضرورة من الفرق بين الشريعة والفقة. الخلط بينهما هو ما أدى للإلتباس فى الفهم ثم التراشق اللفظى والبدنى بين الناس فى الشوارع اليوم. الفقة مبنى على أساس الشريعة. فالشريعة هى ما إختاره الله للبشر لتحديد "مجرى" حياتهم بشكل عام دون التدخل فى تفاصيل حركتهم داخل المجرى (عدم التدخل هنا هو من حكمة الله وليس كفرا بقدرته والعياذ بالله). والفقه على الجانب الآخر هو بالتحديد عمل هؤلاء البشر لوضع التفاصيل التى ترك الله لنا مساحتها ل "نفتى" فيها. يعنى إذا جاز القول بلغة العصر تكون الشريعة هى الدستور والفقه هو القانون المبنى على مواد الدستور.
لكن هذا التشبيه تقريبى فقط لأن الدستور وضعته اللجنة التأسيسية فى حين أن الشريعة من عند الله. الدستور تم إنتاجه فى شكل بنود ومواد والشريعة لم ترد بهذا الشكل فى سورة واحدة فى القرآن إسمها سورة "الشريعة" مثلا. فأين إذن نجد الشريعة فى القرآن والسنة ثم كيف نستفسر عن معانى المواد والبنود إذا كان واضعها (الخالق سبحانه) لايراه ولا يكلمه الناس؟ وكيف نتفادى الخلط بين الشريعة والفقه؟
هنا يمكن أن نستأنس برأى تردد على ألسنة بعض العلماء ومنهم الشيخ القرضاوى فى كتابه "فقه الأولويات" يقول بأن الأولويات فى أفكار وتعاليم القرآن تتحدد بعدد مرات تكرار معانيها فى المصحف. فإذا كانت "لا إله إلا الله" هى أكثر المعانى تكرارا فلابد أن تكون على رأس الأولويات. وبناء على هذه الفكرة يمكن القول بأن الشريعة هى ماورد وتكرر من تعاليم وهدايات فى القرآن بمعنى واضح لايقبل التأويل (يعنى فى الآيات المحكمات وليست المتشابهات) أو هى ما ورد فى سنة مؤكدة أو بالمصطلح الفقهى "متواترة". كما أن أولوياتها تقاس بعدد مرات تكرارها فى هذين المصدرين.
الفصل بين ما هو شريعة وما هو فقه ضرورى لتحديد المقصود بالشريعة. وهو أيضا يعنى ببساطة عدم الهبوط بالشريعة إلى مجال الفقه - يعنى إلى مستوى التفاصيل التى يختلف عليها البشر، لأن فى ذلك إساءة بالغة للشريعة. ولنوضح ذلك بمثال. هناك فرق بين القول بأن الإسلام يستلزم الشهادة بأنه لاإله إلا الله ، والقول بأن الإسلام يستلزم ألا تسافر المرأة إلا فى صحبة "محرم". القول الأول عقيدة وشريعة لأنه مؤكد فى القرآن بما لا يحتمل التأويل فى عشرات الآيات والقول الثانى لم يرد فى القرآن لكن بعض العلماء أفتوا به لمصلحة تقتضيها مجتمعاتهم. فهو إذن أمر خاص بهم وبمجتمعاتهم (فقه) لتحقيق أحد مقاصد الشريعة (ربما يكون الحفاظ على الأسرة أو إعلاء مكانة المرأة أو الحد من الجريمة - ولا يهمنا السبب فهذا أمرهم)، لكن ما يهم هو عدم إدراج مثل هذه الفتاوى فى نطاق الشريعة، فهى مما يمكن إعتبارها فتاوى "تفصيلية - فقهية" تناسب تلك المجتمعات ويجب إحترامها لكن ذلك لايستلزم وجوب تطبيقها فى كل المجتمعات الإسلامية بإعتبارها شريعة.
يحضرنى فى هذا المقام أن أسرد الملاحظة التالية والتى سجلتها أثناء عملى فى المنطقة القطبية الشمالية. الرجال هناك لا يطلقون لحاهم لأن بخار الماء الخارج مع أنفاسهم يتكثف فور ملامسته للشعر الموجود تحت الأنف والفم مباشرة ويتحول إلى ثلج فى ثوان. ومع تردد الأنفاس يزداد وزن اللحية كثيرا. فإذا كان إعفاء اللحية "شريعة" عند البعض فإن هذا لايستقيم مع كون الشريعة هى منهج الله الصالح لكل زمان ومكان. وهذا بالضبط ما أعنيه بتجنب الهبوط بالشريعة إلى مجال الفقه.
أختم هذا المقال بالعودة للمعنى اللفظى للشريعة. بما أنها تعنى "مجرى مائى" فقد يمكن القول بأن الإنسان هو مثل القطرة فى بحر الماء، يحتاج لشئ من "الفقه" لضبط حركته بعيدا عن المحددات الفيزيائية للمجرى "الشريعة" - ولكى لايخرج عن حدود المجرى. لكن هذا الإنسان - تماما مثل قطرة الماء - حر فى الحركة داخل المجرى: قد يقف وقد ينطلق، وقد يهبط للقاع فى لحظة ثم يعود ليطفو وقد ينحو يمينا أو يسارا (بالمعنى الأيديولوجى) وقد تكون حركتة هادئة أو هادرة حسب الظروف. وفى كل هذا فهو فى إطار الشريعة (جانبى النهر). فالشريعة تمنح الحرية للناس بشرط واحد وهو ألا يتعدى أحد حدود المجرى (مثل لاتقربا هذه الشجرة) والفقه يحدد لنا طريق الإبتعاد عن هذه الحدود (الشجرة). وإلى المزيد فى هذا الموضوع ندعو الله أن يهدينا جميعا سواء السبيل. الموقع غير مسئول قانونا عن التعليقات المنشورة