قلنا غير مرة إن أولمرت لم ينقض العهد الذي أخذه على نفسه بوراثة حزب كاديما ومشروعه السياسي القائم على الدولة المؤقتة التي ستغدو دائمة ذات نزاع حدودي مع جارتها الفلسطينية، وهو المشروع الذي كان يسمى الحل أحادي الجانب، ولما ثبت أنه من الصعب إنجاحه بصيغة الأحادية، تم فرضه بالقوة على طرف فلسطيني جديد لديه موقف معروف من العسكرة، أي المقاومة، ولا يملك القابلية لتحدي الخيارات الإسرائيلية، ونتذكر هاهنا شهادة صائب عريقات في محاضرة له بعمان حول تهديد شارون لمحمود عباس بإلحاقه بياسر عرفات إذا لم يوافق على تنسيق الانسحاب من قطاع غزة، الأمر الذي سينطبق بالضرورة على الانسحاب من الضفة الغربية. لندع الأجواء السياسية التي فرضت هذا التوقيت لخطاب أولمرت السلمي، أكانت تلك المتعلقة بحاجة واشنطن إليه بسبب فشلها في العراق وأفغانستان، مع العلم أن مشروع الحرب على العراق كان من أجل عيون الدولة العبرية، ما يعني أن الفشل سيكون وبالاً عليها، أم كانت تلك المتعلقة بالأوضاع المزرية داخلياً بعد الفشل في لبنان وفي المواجهة مع غزة (الفشل في مواجهة الصواريخ والأنفاق وإطلاق الجندي)، بما في ذلك إقصاء حماس. لندع ذلك كله ونتوقف أمام ذات الخطاب الذي قدمه أولمرت وحقيقة التقدم في الطروحات السياسية الذي يتحدث عنه البعض من أجل بث الوهم بعملية سلام جديدة كتلك التي كان ينبغي الشروع فيها قبل أن تتضح معالم الفشل في العراق بعد ترتيب فوز محمود عباس وقبل الانتخابات التشريعية الفلسطينية. نعود إلى الانسحاب من قطاع غزة الذي ما كان له أن يمر بتلك الطريقة لولا تنسيقه مع السلطة، ليس فقط بتجنيب شارون الانسحاب تحت النار، بما يؤكد هزيمته أمام المقاومة، بل أيضاً بترتيب اتفاق مذل فيما يتصل بالمعابر الحدودية، الأمر الذي كان بالإمكان تحديه لو بقي الانسحاب أحادياً، وبالطبع من خلال استهداف الوجود الإسرائيلي في المعابر بالطرق المبتكرة التي نجح فيها الفلسطينيون، وعلى رأسها الأنفاق. كان الترتيب التالي بالنسبة لشارون، وتالياً لكاديما (حزب الانفصال أو الانطواء)، هو نقل التجربة إلى الضفة الغربية عبر الانسحاب إلى ما وراء الجدار، وبالطبع بالتنسيق مع القيادة الجديدة الرافضة للعسكرة والتي كانت تعلن أنها لن تمانع في انسحاب قوات الاحتلال من أي شبر من الأرض الفلسطينية، بصرف النظر عن الطريقة والأهداف، من دون أن تتوقف عن التحذير من الخطة ومحاذيرها على الفلسطينيين في ظل ما يشكله الجدار من كارثة إنسانية على الشعب الفلسطيني. في خطاب أولمرت الجديد، ليس ثمة ما يشير إلى تغيير في خطة كاديما، أو مشروع شارون، اللهم إلا التسمية، فبدلاً من خطة الانطواء، ثمة خطة للسلام ضمن مشروع خريطة الطريق، فيما يعلم المعنيون أن المرحلة الثانية من الخريطة هي الدولة المؤقتة، لكن أولمرت لم ينتظر حتى تنتهي المرحلة الثانية التي قد تطول لتغدو مرحلة نهائية، بل بادر إلى عرض رؤيته للمرحلة الثالثة التي يمكن التعاطي معها من خلال كتاب الضمانات (وعد بوش) الذي قدمه بوش لشارون في أبريل من عام 2004، والذي رسم حدود المفاوضات النهائية بشطب حق العودة وبإبقاء المستوطنات الإسرائيلية القائمة على حالها. إذا افترضنا حسن النية وأخذنا تصريح أولمرت بجدية، أو ذهبنا في الاتجاه الأكثر واقعية وهو التعامل مع تصريحات أولمرت كجزء مما تمليه المرحلة من بث وهم بعملية سلام تنفس الاحتقان في المنطقة وتفسح المجال أمام واشنطن كي تتعامل مع الملف العراقي والأفغاني، وربما النووي الإيراني أيضاً. في أي اتجاه ذهبنا فليس ثمة ما يقدمه الإسرائيليون للفلسطينيين مما يحفظ ماء الوجه بالنسبة للسلطة، فضلاً عن أن يكون كذلك بالنسبة لحماس وقوى المقاومة وعموم الشعب الفلسطيني. في المرحلة الأولى تكون الدولة المؤقتة في حدود الجدار مع تأكيد معادلة بث الوهم بعملية السلام من خلال الإفراج عن آلاف الأسرى ممن لم تتلطخ أيديهم بدماء اليهود، بحسب المصطلح الإسرائيلي، ليس فقط مقابل الجندي الأسير، ولكن أيضاً من أجل تحفيز الشارع للتعامل مع القيادة الرافضة للعسكرة، مع العلم أن أي تحول في المسار الفلسطيني لن يحول دون الإسرائيليين واعتقال أكثر من عدد المفرج عنهم في غضون أسابيع لا أكثر. أما إذا ثبت حسن نية الفلسطينيين، وهو مصطلح إسرائيلي أيضاً، فيمكن الانتقال للمرحلة الثالثة من خريطة الطريق، وهي التي تنطوي على قدر من تحسين شروط حياة الدولة العتيدة، وبالطبع من خلال أراض جديدة، وقدر أكبر من السيادة والتواصل الجغرافي، من دون أن تتوافر السيادة الكاملة، ومن دون أن يصار إلى تجاوز كتاب الضمانات الأمريكية، ومن دون المس بالسيادة الإسرائيلية على القدس. في هذا السياق بشكل عام تؤخذ فكرة التهدئة التي وقعت في قطاع غزة، فهنا على القطاع أن يخرج من دائرة الصراع تمهيداً لنقل التجرية إلى الضفة الغربية، وحيث سيقال إن المقاومة ستوجد حيث يوجد الاحتلال، وفي القطاع انسحب الجيش الإسرائيلي ولا بد أن تتوقف المقاومة، ولا قيمة هنا لاستمرار الاحتلال واقعياً على المعابر وفي البحر والأجواء، فيما لن يتوانى البعض عن طرح فكرة أخرى تتعلق بميزان الأرباح والخسائر المائلة لصالح الاحتلال متجاهلاً أنه لو طبقت هذه الفكرة من قبل حركات المقاومة لما قامت مقاومة ضد أي احتلال على وجه الأرض تبعاً لقدرة المحتل على قتل ما يشاء من المدنيين من خلال الطائرات والمدافع كما وقع في فيتنام والجزائر على سبيل المثال. لندع هنا الكثير من التفصيل بخصوص مصير حكومة حماس التي لن تتوقف عملية مطاردتها تبعاً لاستحالة قبولها بالصيغة المطروحة من قبل أولمرت لما تنطوي عليه من انتحار سياسي، ما يعني أن نهايتها ستكون متوقعة كي يمر المشروع، إما قبل الانتخابات التالية أو من خلالها. على أن ذلك كله لن يعني بحال أن هذه الخطة أو هذا المسار برسم النجاح، فالفلسطينيون لن يقبلوا الطرح الإسرائيلي؛ لا الدولة المؤقتة التي يتوقع أن يطول عمرها حتى يثبت الفلسطينيون حسن نواياهم، ولا الدائمة بحسب وعد بوش، ما يعني أن الجدار المسدود الذي وصلته التسوية في كامب ديفيد، يوليو عام 2000، سيكون في انتظار اللعبة الجديدة، لاسيما أن روح المقاومة المتوفرة في الساحة الفلسطينية والعربية هذه الأيام هي أضعاف ما كان متوفراً خلال النصف الثاني من التسعينيات وعام 2000، فكيف حين نتذكر نبوءة ريتشارد هاس، مدير التخطيط السابق في وزارة الخارجية الأمريكية، بنهاية الحقبة الأمريكية في المنطقة وما تعنيه من جرأة العرب على الدولة العبرية؟