هل تنشب حرب أهلية في العراق؟ هذا السؤال، مع أجوبته المختلفة المتباينة، هو الآن، أو من الآن وصاعدا، الشأن السياسي العراقي الأول والأكبر والأهم، أو يراد له أن يكون كذلك، فمتى، وكيف، ينتهي احتلال الولاياتالمتحدة وحلفائها للعراق إنما هما أمر ينبغي للعراقيين أن يضربوا صفحا عنه، فانتهاء هذا الاحتلال يجب أن يُنظر إليه على أنه ابتداء لحرب أهلية طويلة الأمد بين الشيعة والسنة من عرب العراق على وجه الخصوص، ولانفصال كامل لأكراده، وكأن الغاية المنشودة هي غرس الاحتلال، وتمكينه من أن يضرب له جذورا عميقة، في كل صراع، أو نزاع، داخلي عراقي، من النمط الذي يمعن تمزيقا في وحدة ما كان يسمى "الشعب العراقي". رامسفيلد أجاب عن هذا السؤال إجابة أرادها، هذه المرة، أن تكون في قالب لغوي لا أثر فيه للمفردات والعبارات الديبلوماسية، وكأنه يحاول أن يكون في إجابته محللا تاريخيا. لقد استهل إجابته بتأكيد أن خطر نشوب حرب أهلية في العراق هو أمر فيه مبالغة إعلامية كبيرة، فالعراق، حتى الآن، ما زال بمنأى عن هذا الخطر. ولكن رامسفيلد أقر بأن العراق هو دائما ينطوي على خطر وقوعه في حرب أهلية، فهذا الخطر، على ما يعتقد رامسفيلد، جزء لا يتجزأ من تكوينه الداخلي. أما السبب الذي حال بين العراق وبين الحرب الأهلية في عهد نظام حكم صدام حسين، على وجه الخصوص، فيكمن، بحسب تحليل رامسفيلد، في القبضة الحديدية لنظام الحكم هذا والتي بفضلها ظلت جمار الحرب الأهلية تحت الرماد، فالقمع، والقمع وحده، هو الذي منع العراقيين من الدخول في حرب الكل ضد الكل. إن "المقابر الجماعية"، وما شابهها من أعمال قمع وإرهاب، هي، في استنتاج رامسفيلد، ما أبقى على العراقيين في وحدة شكلية. لقد اعتْقَلَ صدام حتى خطر الحرب الأهلية، ولكن هذا ليس من مآثره، بحسب تقويم رامسفيلد، فالحل كان يجب أن تأتي به الديمقراطية، التي هي وحدها في مقدورها تحويل طاقة الصراع العراقي الداخلي من طاقة للهدم والتدمير إلى طاقة للبناء والتعمير، فهل جاءت الولاياتالمتحدة للعراقيين بديمقراطية كهذه؟! جاءتهم بديمقراطية من النمط الذي رأت فيه، وفي عواقبه، ما فضلت تسميته "الفوضى البناءة"، فهي أقامت لهم من النظام الديمقراطي ما فشل في تحريرهم ديمقراطيا، وما نجح في تحرير خطر الحرب الأهلية من المعتقل الذي اعتقله فيه صدام حسين زمنا طويلا، فالرماد نفضه بريمر، بقانونه، عن الجمار، ثم شرع ينفخ فيها، مقيما لكل عصبية مدمِّرة لوحدة الشعب العراقي، وللوحدة القومية لعرب العراق، أحزابا ومؤسسات على مثالها، فلم نرَ من التطور أو التحرير الديمقراطي ما يسمح بظهور أكثرية، أو أقلية، عابرة ومخترِقة للجماعات العراقية المختلفة، مع أن هذا العبور وهذا الاختراق هما أهم معنى من معاني الديمقراطية ونجاحها، فتزويد تلك العصبية صندوق اقتراع إنما هو الوسيلة الفضلى لتحويل الحرب الأهلية من كامنة مستترة إلى ظاهرة مكشوفة. ولو أراد رامسفيلد استنتاجا علميا حقا لكان عليه أن يستنتج أن إطاحة نظام حكم كنظام حكم صدام حسين، وفي الطريقة التي اتبعتها الولاياتالمتحدة لإطاحته، مع نشر ديمقراطية ليس فيها من الديمقراطية إلا بعض جوانبها الشكلية كالانتخابات وصندوق الاقتراع، ومع وجود الاحتلال، هي أمور لا يمكن فهمها والنظر إليها إلا على أنها استجماع وتهيئة لشروط وأسباب صراع داخلي، إن لم يتحول إلى حرب أهلية فإنه يبقي خطرها محدقا بالعراقيين من كل حدب وصوب. إذا كان صدام حسين قد أبقى خطر الحرب الأهلية قيد الاعتقال فإن الولاياتالمتحدة هي التي حررت هذا الخطر، وأقامت له في العراق كل ما يزيده تفاقما واستفحالا، وكأنها لم تطح نظام حكم صدام حسين إلا لتقول عبر سفيرها زالماي خليل زاد: "لقد فتحنا أبواب الشر"! نستحق هذا الذي يحل بنا! وجود ضحية هو الذي يعطي الكارثة أو المأساة معناها كاملا. ونحن نميل دائما إلى فهم الكارثة أو المأساة على أنها شيء يشبه القضاء والقدر، فنلعن الكارثة أو المأساة، وصناعها، ونحنو ونشفق على الضحية، ضاربين صفحا عن أمر في منتهى الأهمية هو أن الكارثة أو المأساة من صنع ضحيتها في المقام الأول، ولا بد لنا، بالتالي، من أن نقف مع الضحية كما وقف معها نيتشة، فالقسوة خير من الشفقة إذا ما أردنا للضحية أن تثور على كل ما يبقيها في وضع الضحية. في العراق، نحتاج إلى فهم مختلف للضحية، التي هي شعب العراق على وجه العموم، وعرب العراق من سنة وشيعة على وجه الخصوص. بحسب هذا الفهم، لا أرى عدوا للعراق وشعبه، وللأمة العربية بأسرها، غير الولاياتالمتحدة وإسرائيل، فإيماني بأن الشر العراقي، بكل أوجهه، ومهما لبست من أقنعة، هو من صنعهما وتدبيرهما، يعدل ايماني بما أراه رأي العين على أن هذا الإيمان يضر ولا ينفع إذا ما ظللنا ننظر إلى الشعب العراقي، وإلى عرب العراق من سنة وشيعة على وجه الخصوص، على أنهما الضحية المطلقة، التي لا ذنب لها في كل ما حل، ويحل، بها من كوارث ومصائب وويلات. وقد صدق هيجل إذ قال إن فساد الحاكم يكمن في فساد الرعية، فلا تبحثوا عن فساده في غير هذا المكان. من رأى هذا الصراع بين الأحياء من الشيعة والسنة من عرب العراق، والذي يقوده الموتى منذ مئات السنين، اكتشف محاسن ومزايا نظام حكم صدام حسين، الذي عرف كيف يبقي الصراع بين هذه العصبية وتلك في الاعتقال، أو كجمر تحت الرماد، ثم استنتج أن شعب العراق يحتاج دائما إلى أن يُحكم كما حكمه صدام حسين. وأحسب أن الولاياتالمتحدة لم تغزُ العراق وتحتله إلا لتحرير كل صراع مدمر لوحدة العراق، وللوحدة القومية لعربه من سنة وشيعة، من ذلك الاعتقال، فوجود المعتقِل صدام حسين كان يمنع القوة الإمبريالية العظمى في العالم، ومعها إسرائيل، من الاستثمار السياسي الاستراتيجي في هذا النمط من الصراع، الذي هو صراع أحياء يقوده موتى. حتى بالديمقراطية زنت الولاياتالمتحدة، فاتخذتها وسيلة لتدمير الوحدة القومية لعرب العراق بقوة العصبية الطائفية، ولتأسيس "أكثرية" و"أقلية" من نمط طائفي لا تقوم له قائمة في أي مجتمع ديمقراطي. المصيبة الصغرى كانت هذا الذي فعلته الولاياتالمتحدة. أما المصيبة الكبرى فكانت هذا السقوط الشعبي في فخ العصبية الطائفية المدمرة للوحدة القومية لعرب العراق. والمهزلة الكامنة في المأساة أن العصبية العشائرية هي التي قد تمنع العصبية الطائفية من التحول إلى حرب أهلية طائفية، فوحدة الانتماء العشائري لكثير من الشيعة والسنة من عرب العراق هي التي قد تمنع العصبية الطائفية من التوسع في تحولها إلى حرب أهلية بين الشيعة والسنة من عرب العراق! إنها المهزلة بعينها أن يقوم الانتماء العشائري بما كان ينبغي للانتماء القومي العربي القيام به. لقد ارتضوا لانتمائهم القومي العربي أن يكون في هذا الدرك الأسفل من حياتهم، وارتضوا للديمقراطية أن تكون طريقا إلى الطائفية السياسية، فلم يعرفوا من القيادات السياسية، بالتالي، إلا من خلقته العصبية الطائفية على مثالها، فإذا تصارعوا، تصارعوا طائفيا، وإذا اتحدوا، اتحدوا طائفيا، وكأن الطائفية هي حربهم وسلامهم! في صراعهم، الذي تديره وتنظمه الولاياتالمتحدة وإسرائيل، تلهُّوا بصراع مذهبي قديم يضر ولا ينفع عن صراع جديد حقيقي، قومي وديمقراطي وحضاري، يتحداهم على أن يكونوا أهلا له، فإذا بالصغائر تعظم، والعظائم تصغر، في عيونهم. العراق دُمِّر. وفيه، وبه، دُمِّرت الأمة والديمقراطية. كل هذا الدمار لم يحرك فيهم ساكنا. وحده ذاك الصراع المذهبي القديم هو الذي أثارهم وهيجهم إذ أشعلت فتيله الولاياتالمتحدة وإسرائيل ومن يعمل في خدمتهما من العراقيين، وكأننا لا نملك من ماضينا إلا ما يجعلنا حلفاء لأعدائنا في سعيهم للقضاء علينا، فنحن، حتى الآن، لم نعرف من الصراع إلا ما تشدنا إليه مصالحنا الوهمية ضد مصالحنا الحقيقية! * كاتب فلسطيني