نشر ما يسمى "مكتب الأمن القومي الإسرائيلي" إحصائية بمناسبة إحياء ذكرى ما يسمى بيوم الاستقلال حول عدد قتلى الكيان الصهيوني منذ بدأ اليهود حروبهم في فلسطين في سنة 1860 وحتى اليوم. وبينت الإحصائية أن عدد القتلى من العسكريين بلغ نحو 22993، وتبين أيضا أن الحرب التي فقد الكيان الصهيوني فيها أكبر عدد من القتلى، كان فيما تعرفه ب"حرب الاستقلال" بين عامي 1947 - 1948، حيث خسرت نحو 6500 شخص، تليها حرب أكتوبر عام 1973، حيث فقدت 2500 جندي، ثم حرب الاستنزاف في سيناء المصرية حيث قتل نحو 1000 جندي، ثم حرب الأيام الست عام 1967 حيث فقدت نحو 750، وحرب لبنان الأولى سنة 1982 حيث قتل 650 جنديا. ولكن اللافت في الإحصائيات الواردة هي أعداد القتلى من المدنيين اليهود منذ عام 1950 حيث بلغ عددهم نحو 2,477 صهيونيا فقط, منهم 996 صهيونيا قتلوا منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000. الرقم المذكور يعتبر قليل جدا نظرا لكثرة الحروب والصراعات التي رافقت قيام الكيان الصهيوني منذ أن تسللت العصابات الصهيونية تحت عباءة الانتداب البريطاني إلى فلسطيني حتى يومنا هذا, وهو رقم قليل إذا قارناه بالخسائر البشرية في صفوف العرب, فمنذ نكبة عام 1948 قتلت دولة الاحتلال نحو نصف مليون فلسطيني وعربي وشرّدت 5 ملايين آخرين, واعتقلت مليوناً وجرحت مليوناً آخرين. دولة الاحتلال نجحت على مدار عقود في تطبيق نظريتها الأمنية "جعل المعركة في أرض العدو", في ظل افتقار أراضيها للعمق الاستراتيجي, وتطورت هذه النظرية إلى مبدأ توجيه ضربات وقائية أو ما سمي ب"الهجوم المضاد الإجهاضي", وبناء عليه بنى الكيان قدرتها العسكرية على مبدأ التفوق النوعي في الأسلحة الهجومية على مدار عشرات السنوات لضمان الردع أمام المحيط العربي المعادي الذي يلفها من جميع الجبهات, وعلى خط مواز حرصت على عقد اتفاقيات سلام مع جيرانها العرب لضمان سلامة وأمن حدودها. هذه النظرية بدأت بالتلاشي مع التغيرات الجوهرية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط خلال العقد الأخير باستخدام حركات المقاومة التي شكلت جيوشا صغيرة نظريات عسكرية غير مألوفة بالنسبة لدولة الاحتلال, حيث نقلت المعركة إلى جبهتها الداخلية باستخدام الصواريخ والقذائف قصيرة ومتوسطة المدى مستغلة صغر البقعة الجغرافية لدائرة الصراع, وظهر ذلك جليا خلال حرب تموز 2006 حيث تكبدت الجبهة الداخلية الصهيونية خسائر غير متوقعة أربكت ميدان المعارك وأجبر الكيان الصهيوني على وقف القتال والاعتراف بالهزيمة, وهذه التجربة تكررت في قطاع غزة خلال عملية الرصاص المصبوب عام 2009 واستطاعت المقاومة إطلاق الصواريخ والقذائف طوال 23 يوما من المعارك على البلدات المدن المحاذية للقطاع, وعلى عكس لبنان كان الهدف الصهيوني المعلن خلال الحرب على غزة هو وقف إطلاق الصواريخ إلا أن الصواريخ استمرت في الهطول حتى آخر لحظة من وقف القتال. الكيان استفاق على واقع جديد أيقنت فيه أن المعارك المستقبلية ستكون على جبهتها الداخلية, وهي تلفت اليوم حولها لتجد أن أكثر من 200 ألف صاروخ وقذيفة تلفها من جميع الجوانب موجهة إلى قلبها. وباتت تثار التساؤلات في الكيان الصهيوني حول ما الذي سيحصل لسلاح لقواعد سلاح الجو والمواقع الإستراتيجية في المواجهة المقبلة؟ في ظل تطور قدرات الطرف الآخر من حيث قوة الصورايخ التي يمتلكها ومدياتها ودقتها, وإذا أضيف لهذه التهديدات واقعا جديدا آخذا في التبلور يعيد رسم ملامح الشرق الأوسط بعد أحداث الربيع العربي, إلى جانب التهديد النووي الإيراني, وإعادة رسم خارطة التحالفات والمحاور بعد تدهور العلاقات مع تركيا التي حلت في المرتبة السادسة على مستوى العالم في مجال القدرات العسكرية متقدمة على الكيان بأربع درجات, فإن الكيان الصهيوني يقع اليوم وسط حالة من عدم اليقين لا يستطيع معه أن يتنبأ بما يخبئه له المستقبل. ولكنه بالتأكيد مستقبل لا يحمل على التفاؤل إطلاقا. وفي ظل هذا الواقع تبددت النظرية التي كانت قائمة إلى فترة ممتدة بأن الكيان الصهيوني قادر على إزالة أي تهديد من خلال قدرته العسكرية, فالهواجس التي يعيشها الكيان الصهيوني اليوم أجبرته على التحول من نظرية الهجوم ونقل المعركة إلى أرض العدو إلى نظرية الدفاع السلبي "حماية الرأس" وانعكس ذلك على أوجه الإنفاق العسكري وطبيعة برامج التسلح, واستثمار ميزانيات لا يستهان بها لصالح برامج الدفاع ضد الصواريخ القصيرة والمتوسطة والبالستية.