إن المقاتلين الذين تركوا القتال وبعد أن وضعت الحرب أوزارها فإذا بالعالم يرحب بخطوتهم تلك وأفسحوا المجال للتفاوض وأمسكوا بالأقلام بدلا من المجانيق الفتاكة، خصوصا وأن جذور الصراع الدائر قد أكلته العقود الطويلة، إن عملية المفاوضة تديرها العقول الواعية التى تحسن الإستماع للآخرين، وهي عملية تفاعلية بين الأطراف المعنية تهدف إلى هدف ما، لتسنح الفرصة للتعبير والإصغاء لطموحات الطرف الآخر فى وقت كان منطق القوة والعنف يتحكم فى عقولهم وأعماق قلوبهم. فعلا، إن الحوار هى الوسيلة الأمثل فى حل أغلب القضايا مهما تعمقت جذور المشكلات، وتتطلب جدية من كآفة الأطراف وإلتزام لمضمونها من ألفها إلى يائها، كانت المفاضات دهليز للحرب أو نوع من أنواعها، وفى أغلب قضايا الصراع فى العالم فقد تم حقن الدماء من خلالها، فالحرب مسألة حياة أوموت وهى الطريق إلى بر الأمان أو إلى الهلاك، وفى آخر المطاف يضطر كل الأطراف المتنازعة إلى البحث عن المصالحة. الجولة الأولى.. تجربة فاشلة لقد لقي الكثير مصرعهم وأُهدِرت المرافق الأساسية وعانى شعب مورو من عربدة واستبداد النظام قبل أن تقرر الحكومة وجبهة تحرير مورو الوطنية (الجبهة الوطنية) الجلوس للتفاوض سنة 1975، وقد توصلَا إلى إتفاق نهائي بعد 20 سنة فى 2 من سبتمبر 1996. يتضمن ثلاث إتفاقيات كبري وقعت بين الطرفين وفقا لما نشرته مدونة الجبهة الوطنية الرسمية وهو؛ (1) إتفاق طربلس فى 23 من ديسمبر سنة 1976 (2) وقانون العضوية للحكومة الذاتية لمسلمي منداناو سنة 1989 (3) والقواعد المشتركة للهدنة فى الميدان سنة 1994. رغم هذه الإتفاقيات وقيام الحكومة الذاتية لمسلمي منداناو – المشبوهة – والتى ظلت تسرى أكثر من عشرين عاما إلا أن الوضع السياسي والإقتصادي والإجتماعي قد تفاقم وظل الشعب يعيش على الكفاف ويعانى من الإنفلات الأمنى وأودى ذلك بالمنطقة إلى مزيد من الفقر، وأشباح الموت تتنقل فى كافة الجزر التى يكثر بها المسلمون. وفى سبتمبر الماضى صرحت حكومة مانيلا بأن الحكم الذاتي فى جنوب البلاد كان تجربة فاشلة وأن خلايا الفساد السياسي فيها انتشرت وقامت بتأخير الإنتخابات فيها وتعيين حكومة مؤقتة فيها. إن هذا التدخل السافر فى الشؤون الداخلية لها يبرهن على أن الحكومة الذاتية المزعومة ليست إلا كحكومة محلية للدولة بل هى أقل مرتبة فى شؤون الدولة، وهى بالفعل كذلك كما نص عليه الدستور سنة 1987 عن إنشاء وحدة سياسية تهتم بإدارة شؤون المسلمين بأراضى الفلبين بدعوى ممارسة الديمقراطية، وهي بالفعل مجرد كلام غوغائي بل تسبب ذلك فى زيادة معاناتهم مع إبقاءهم فيها وإضعافهم للخروج من هذا الظلام الدامس، كما يُفهم من خلال نص الدستور أن هذا الحكم الذاتي قد تم إنشاءه قبل منحه للجبهة الوطنية فى 1989 ولم يُبن على أساس التفاوض مع الحكومة بمعنى أن تقام شبه دولة التى تشبع حاجات الشعب المظلوم وتحمى ممتلكاتها وكيانها من كيد الظالمين والعملاء للحكومة. وقد نص ذلك الإتفاق النهائي على "أن أية تعارض فى التفسير لهذا الإتفاق يتم حله فى ضوء الدستور الفلبيني والقانون القائم" وهذا يعنى منح الطرف الحكومي حق وسيادة فى ممارسة التفسير دون الأطراف الأخرى، وهى الجبهة الوطنية والمراقبين الدوليين بما فيهم منظمة المؤتمر الإسلامي كطرف ثالث، وبالتأكيد فإن ذلك يفسر على أن كافة بنود الإتفاق أصبحت دون جدوى. ومن ثم، فقد تكرر هذا السيناريو مسبقا فى إتفاق طرابلس حيث ينص على أنه "يتعين لحكومة جمهورية الفلبين ممارسة كافة الإجراءات الدستورية فى تنفيذ كل بنود الإتفاقيات"، أي أن تطبيقها يأتى وفقا للخط الحكومى وبرضاها. وبشكل واضح فإن ما توصل إليه الإتفاق هو تكامل إجتماعي أدي إلى اندماج الجبهة الوطنية فعليا إلى هيئة وطنية سياسية وقد انضم عناصرها مع القوات الحكومية. وفى هذه الآونة لا تزال الجبهة الوطنية تحتج وتتهم الحكومة بعدم تطبيق الإتفاقيات وكان آخر المباحثات الثلاثية التى أجريت حول هذا الشأن كان فى اليوم 1-2 من الشهر الجاري برعاية إندونيسيا وبحضور السفير سيّد المصرى مبعوثا عن منظمة المؤتمر الإسلامي وممثلي حكومات كلُّ من تركيا وماليزيا وبروناي دار السلام ومصر والمملكة العربية السعودية وليبيا. عملية السلام بين الحكومة والجبهة الوطنية قد انتهت بشكل رسمي فى 1996 وهذه المباحثات ليست إلا مجرد جلسات نقاشية حول مسألة التطبيق، ووفقا للتصريحات التى صدرت من منظمة المؤتمر الإسلامي فإن الفقرة الأولى للإتفاق وهي الجانب السياسي قد تم تنفيذه بشكل كامل وبقي الفقرة الثانية تتعلق بالجانب الإقتصادي التى لا تزال محلًّا للنقاش. ولست أرغب بتجريح مشاعر إخواننا فى الجبهة الوطنية لكن كيف وما الدافع فى قبول هذا المنطق السقيم مجددا الذي لا يشفى العليل والذى بصدده بات الشعب يتقلب مع هذا الوضع البائس بين عشية وضحاها، وإن كان الغرض لعبة سياسية فهل من المنطق أن يُلدغ المرء من حجر واحد مرتين؟ أوليس من الحق أن لا تتكرر أخطاء الماضى؟ إن هذه الغفلة تسببت بكثير من تزايد المآزق وزادت الطين بلا، وقد نسوا على أن هذا الضوء الدستوري هو الذي أذل كيان الشعب وإسلاميته على رؤوس الأشهاد وحرّم عليهم حقهم فى الوجود. الجولة الثانية.. إلى أين؟ إن جذور المشلكة – الظلم – غير معقم ولم يزل كما ينبغى رغم تلك الإتفاقيات، فكانت لجبهة تحرير مورو الإسلامية (الجبهة الإسلامية) فرصة الجلوس للتفاوض مع الحكومة وذلك استجابة لمبادرة حكومية، ولأجل استمرار الكفاح المشروع لنيل الحرية وحق تقرير المصير. النقطة الأساسية التى يجب فهمها فى قضية عملية السلام الجارية بين الحكومة والجبهة الإسلامية منذ إنطلاقها هي حذف كلمتين من قاموس المفاوضات وهي "الإستقلال" و"سيادة الدستور"، فتنازلت الجبهة الإسلامية بمطالبة الإستقلال ولا الحكومة تتفاوض داخل إطار سيادة الدستور، وهذا الغياب للمصطلحين هى التى دفعت عجلة المفاوضات للمضي قدما من جديد بحثا لحل سياسي ملموس فى غضون سنة 1997. وكان السؤال المطروح كنقطة الإنطلاق هو "كيف يمكن حلّ مشكلة شعب مورو؟" وبكل تأكيد، إن لم يكن واضحا فإن الجبهة الإسلامية تعترف بسيادة الدستور الفلبيني بحيث أنه ليس من المنطق أن تتفاوض لطرف لا تتمتع بالسيادة، وبالتالي فإنها اعترفت بسيادة الرئيس الفلبينى للتفاوض معها. لكن كان هناك أمر استثنائي فى هذه المسألة، هو أن الجبهة الإسلامية ستقبل بتدخل الدستور إذا كان الأمر يرتبط لخدمة مصالح المفاوضات، أو فى تطلعات الشعب بالتحديد، وهى تعديل الدستور خاصة فيما يتعلق بقانون العضوية سنة 1987. ظلت المفاوضات بين الطرفين تخطو خطوة السلحفاة خلال 15 سنة حتى فى الوقت الراهن لقيت خلالها أنواعا من الصدمات فى الشارع السياسي، كما نشب ثلاثة حروب دموي بين القوتين أودت إلى مقتل ألوف من قوات الحكومة واستشهاد المئات من جانب المجاهدين ناهيك عن تأثيرها السلبي للمدنيين الأبرياء حيث تشردت أكثر من 600,000 شخص جراء اندلاع الحرب فى سنة 2008. رغم الخروقات التى ترتكبها الحكومة فى عملية السلام إلا أن موقف الجبهة الإسلامية تفسر وضوح سياستها تجاه البحث السلمي لحل المشكلة، وقد صرح الحاج مراد إبراهيم، رئيس الجبهة الإسلامية، خلال لقاءه مع مراسلة الجزيرة على أن الجبهة تخشى أن تتحول المنطقة إلى أفغانستان وعراق أخرى فى شرق آسيا. وفى غضون 2012 كشفت المخابرات الفلبينية على نشوء جماعتين صغيرتين عُرفت حركة شباب مورو وحركة مورو الإنفصالية وتتحملاَ مسؤولية سلسلة تفجيرات وقعت مؤخرا فى مختلف البلدان. بين التفاؤل والخوف وبناء على المعلومات التى كشفها المفاوضون أن عملية السلام الجارية، بوساطة ماليزيا، قد توصلت إلى مرحلة صلبة وأن شهر مايو وأبريل هى مرحلة حاسمة فى نفس الوقت، وقد تم طرح القضايا الموضوعية التى تتعلق بتقاسم السلطة والإقتصاد والحدود الإقليمية والسلطة الإنتقالية فى طاولة المفاوضات، وهى العناصر الأساسية فى إنشاء حكومة ذاتية حقيقية أوسع تعنى شبه دولة التى تتطلع وتسعى إليها الجبهة الإسلامية وبقي الإتفاق والتوقيع بها، وسوف يلتقى الطرفين فى تسوية هذا الموضوع المزعم إجراءه فى 19 حتى 21 من هذا الشهر فى كولا لومبور، العاصمة الماليزية. مفاوضات تحتمل الأمرين، إما النجاح وإما الفشل، والكثير متفائل فى توصل الجانبين إلى حل سياسي ملموس، لكن المخاوف تدهش المواطنين إذا فشلت المفاوضات، والأسئلة تطرح نفسها؛ فى حالة فشل هذه المفاوضات الجارية وتفشى الفوضى والقتال فى المنطقة إلى حد لم يتوقع به أحد، فمن الذي يتحمل المسؤلية؟ هل شعب مورو، التى تمثلها الجبهة الإسلامية الآن، والتى تفاوضت مع الحكومة فى 15 سنة هى التى تتحمل المسؤولية أو الحكومة الفلبينية التى تلاعبت فى قضيتها خلال 35 عام؟ هل الجبهة الإسلامية تستحق بصب أصابع اللوم والتهم إذا لجأت إلى استخدام القوة لأجل تحقيق الحرية ونيل حق تقرير المصير؟ أم أن المجتمع الدولى والمنظمات الدولية تتحمل المسؤولية فى تحيرها إن لم يكن مقصِّرًا فى إنقاذ الوضع؟ إن لكل بداية نهاية، نأمل أن تكون النهاية كبداية عهدها تترفرف وتصفق فيها أيدى مؤمني السلام.