بصرف النظر عن مآل المشاورات حول تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، وما إذا كانت ستفضي إلى شيء إيجابي أم لا، فإن الوضع الفلسطيني يسير حثيثاً نحو ذات الطريق المسدود الذي سبق أن وصله صيف عام 2000، والذي مهّد لاندلاع انتفاضة الأقصى بعد ذلك بأسابيع. نقول ذلك رغم ترتيبات فلسطينية إسرائيلية عربية دولية تسعى إلى تجنب هذا الخيار بكل الوسائل الممكنة، وهي ترتيبات يتولى كبرها قادة في حركة فتح حسموا خيارهم في اتجاه التعامل مع المعطيات الإسرائيلية الدولية بصرف النظر عما يمكن أن تمنحه للفلسطينيين. خلال الأسابيع الأخيرة تابعنا سعي هؤلاء القادة لفرض السيطرة على حركة فتح تمهيداً للمضي في ذلك البرنامج السياسي المعروف، الذي تقف عبارة "رفض العسكرة"، أي رفض المقاومة كعنوان أساسي من عناوينه، وٍهي التي طالما استعملها الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس، فيما مال الآخرون إلى منحها أسماء حركية مثل الانتفاضة السلمية، وإن غابت هذه الأخيرة عندما تبين أن من الصعب على الاحتلال استيعاب انتفاضة من هذا النوع، نظراً لصعوبة السيطرة عليها كي لا تذهب في اتجاه العسكرة كما وقع لانتفاضة الأقصى من قبل. خلال الاجتماع الأخير للمجلس الثوري لحركة فتح جرى منح السيد محمود عباس لقب القائد العام لحركة فتح، وهو منصب ليس له وجود في لوائح الحركة، وذلك تمهيداً للحد من صلاحيات أمين سرها، فاروق القدومي، وذلك في انقلاب واضح على الصيغة التي تم التوافق عليها بعد وفاة أو اغتيال الرئيس ياسر عرفات، تلك التي منحت عباس رئاسة اللجنة التنفيذية ومنصب رئيس السلطة ضمنياً، فيما منحت القدومي زعامة الحركة. الآن يسعى فريق رفض العسكرة إلى وضع يده على فتح، وبالطبع من خلال إضافة عدد من الأسماء إلى المجلس الثوري، وتالياً إلى اللجنة المركزية بدلاً من الأموات، وبذلك تتحول الحركة من حركة تحرر إلى حزب حاكم في دولة برسم الإنشاء أو لعلها موجودة بالنسبة للكثيرين. بعد ذلك سيجري التعامل مع حركة حماس بالطريقة المناسبة، بصرف النظر عن مآل المشاورات الحالية، فهنا ثمة فئة (فتح) تمسك بالسلطة، وإذا ما توافرت لها حصة أخرى من الحكومة فسيكون بالإمكان الانتظار حتى الانتخابات القادمة إذا لم يجر ترتيب مسار آخر قبل ذلك يقصي حماس، وما إدخال عناصر قوات بدر، والإصرار على تقوية الحرس الرئاسي ومنح الرئيس المزيد من الأموال والصلاحيات سوى مؤشرات على ذلك. بالنسبة لحماس، يمكن القول إن محاولات استدراجها نحو خطاب التسوية والاعتراف لن تتوقف، أكان بصيغة مباشرة، أم بصيغة ملتوية، وكل ذلك إنما يأتي بالنسبة لفتح في سياق التشويه ليس إلا، وبالطبع تمهيداً لخطوة الإقصاء التالية. دعونا نفترض أن الحكومة الجديدة ستمضي في طريقها، وهو طريق التسوية خارجياً وطريق التعامل مع الأمر الواقع وحل معضلة الرواتب داخلياً، وهنا يمكن القول إن الصلاحيات الرئاسية ستزداد تضخماً في الداخل، فيما تستأثر بالمفاوضات في الخارج، وبالطبع ضمن صيغة استدراج لن تتوقف بصرف النظر عن المعطيات على الأرض، ألا وهي صيغة التهدئة المستمرة في قطاع غزة، ربما من دون التوقف عن عمليات الاغتيال المستهدف للقادة والنشطاء. كل ذلك ضمن صيغة تقول إن على قطاع غزة أن يخرج من دائرة الصراع على ما تبقى من فلسطين، وأن يتحول إلى دولة جوار، وهي صيغة لا بد منها لكي يمضي الشق الثاني من خطة فك الارتباط التي لا وجود لسواها في الساحة السياسية الإسرائيلية الفاعلة، أكان في حزب العمل أم كاديما، فضلاً عن إسرائيل بيتنا الذي لن يعارضها معارضة حقيقية. بالنسبة للشق الأول المتعلق بالقطاع يرى المعنيون في فتح والساحة الإسرائيلية أن بالإمكان المضي حتى لو بقيت حماس في الحكومة، بل ربما وفر ذلك الوجود بحسب البعض مزيداً من القوة له، على اعتبار أن هناك من يريد الحفاظ على الحكومة ويرى أن المقاومة توجد حيث يوجد الاحتلال، وقد خرج الاحتلال من قطاع غزة. أما في حال الإصرار على الرفض فإن بالإمكان تأخير المسار حتى الانتخابات التالية، وذلك لكي يفرض من خلال لعبة الأقلية والأغلبية التي على حماس الالتزام بها كما التزمت بها فتح، وبالطبع بعد ترتيب فوز لفتح في الانتخابات، وإذا ما تم ذلك فإن القادم هو تطبيق الشق الثاني من خطة فك الارتباط، ويتعلق بالضفة الغربية، وحيث ستكون الدولة قائمة في حدود الجدار الأمني المعروف، الذي يلتهم أكثر من نصف الضفة. هنا يمكن القول إن الدولة المؤقتة التي نادى بها شارون قد قامت، مع العلم أن خطته كانت تسمى عند طرحها في عام 2000، الحل الانتقالي بعيد المدى. وفي العموم فإن تلك الدولة لن تلبث أن تتحول إلى دولة دائمة لها نزاع حدودي مع جارتها، والخلاصة هي تأبيد النزاع، لأن القوم الذين يديرون اللعبة يرفضون العسكرة، أي المقاومة. تلك هي اللعبة التي نرقب الآن فصولها في الساحة الفلسطينية، والتي تتم أمريكية إسرائيلية وسكوت عربي، لكن ذلك لا يعني بحال أنها برسم النجاح، ومن راقب فشل جميع مخططات المحافظين الجدد وسادتهم في تل أبيب منذ خمس سنوات لا يمكن إلا أن يتفاءل بأن هذه الخطة في سبيلها إلى الفشل أيضاً. نقول ذلك ليس من باب الحظ، ولا من باب التفاؤل العاطفي، وإن توافر شيء من ذلك في الحالة السياسية في بعض الأحيان، ولكن من باب القراءة الموضوعية لما يجري على الأرض، ذلك أن مسار المفاوضات الذي يمضي فيه القوم لن يصل بهم إلا إلى أسوأ مما وصل إليه ياسر عرفات في كامب ديفيد2، تموز عام 2000، وهي الدولة المؤقتة مقطعة الأوصال على قطاع غزة وحوالي نصف الضفة الغربية، الأمر الذي لن يقبله الفلسطينيون، وإذا اعتقد سادة رفض العسكرة أن بوسعهم فرض حل كهذا على قوى المقاومة كما فعلوا مابين 94 و2000 فهم واهمون، فالموقف اليوم مختلف، وجبهة المقاومة والممانعة في الأمة في صعود، ومعها الصحوة الإسلامية وظاهرة الجهاد والاستشهاد، ما يعني أن أحداً لن يكون بوسعه فرض حل كهذا على الفلسطينيين أو على الأمة، وليجرب من شاء أن يجرب، مع العلم أن التعويل على تيار رافض في حركة فتح سيبقى قائماً في كل الأحوال.