الآن، وقد هدأت ردود الفعل على خطاب أوباما فى جامعة القاهرة، الذى لم يُغضب أحدا، لا إسرائيل ولا عرب الاعتدال ومثقفيهم، لأنه لم يقل فى الحقيقة شيئًا جديدًا عما سبق أن قاله ثم نفذه بوش وسابقوه من حكام واشنطن بشأن قضية الصراع العربى- الإسرائيلى، فهم يتحدثون عن السلام ويقصدون سلام إسرائيل فقط، ويتحدثون عن الضحايا ولا يرون سوى ضحايا العمليات الاستشهادية التى تقوم بها المقاومة الفلسطينية فحسب أما الأطفال الفلسطينيون الشهداء أو الضحايا وبيوتهم المهدّمة والحصار النازى عليهم فهو أمر لا يريد أوباما ولا غيره من رؤساء البيت الأبيض أن يراه أو يسمع به. على أى حال دعونا نَعُدْ إلى العقل العربى المنبهر بما قاله أوباما، وبما وعد به من بحور السمن والعسل بشأن القضية المركزية للأمة العربية- قضية فلسطين- إلى أصولها وأبجدياتها مرة أخرى، خاصة مع قدوم نتنياهو لسدة رئاسة الوزراء فى إسرائيل، وصعود اليمين وتسيُّد ثالوث (الجيش- اليمين- رجال الدين اليهود) المشهد الإسرائيلى الحاكم.. نحتاج إلى إعادة فهم لأصول الصراع وطبيعته إذا كنا نريد استشرافاً حقيقياً لمستقبله، ووضعاً جاداً لسيناريوهات الصراع المقبلة، خاصة بعد أن تاه البعض عنها بفضل أوباما وخطابه وأوهامه التى ساقها فيه وعملية غسيل السمعة التى قام بها لدولته ولإسرائيل. إن التاريخ، يؤكد لنا أن الصراع العربى- الصهيونى لم يكن مجرد صراع على قطعة أرض أو نهر، أو مدينة، بل هو صراع حضارى ممتد، صراع له أبعاده ودوائره التى آن لنا أن نستعيدها مجددا. إن الصراع مع إسرائيل فى تقديرنا له ستة أبعاد. مهما تبدلت الحكومات، وتغيّرت القضايا ستظل هذه الأبعاد حاكمة للصراع ولمستقبله.. فماذا عنها؟ البعد الأول: صراع دينى/ سياسى: نعلم أن البعض من المثقفين والسياسيين بل حتى من مناضلينا لا يحبون أن نقول إن هذا الصراع فى أحد أبعاده الرئيسية هو صراع دينى سياسى ولكن ماذا تفعل وهى حقيقة أكدتها قصة الصراع وأحداثه الدامية.. إنه فى أحد أبعاده المهمة صراع بين المسلمين واليهود الصهاينة وما زيادة الاتجاه الدينى والتمثيل الدينى فى قطاعات صناعة القرار الإسرائيلى إلا دليل على هذا البعد المهم من أبعاد الصراع. البعد الثانى: صراع مصيرى وحضارى: فالصراع بين الجسد العربى/ الإسلامى والكيان الصهيونى صراع حول مفهوم «البقاء أو الوجود»، فالصراع لم يكن طيلة تاريخه صراعًا على قطعة من الأرض أو مدينة أو ضفتى نهر فقط، ولكنه- وفق رؤى طرفيه- صراع حول «حق البقاء» وهكذا الصراع المصيرى الذى يفترض أن يكون بين نقيضين يتم الصراع بينهما، والذى لا ينتهى هنا إلا بفناء أحد الخصمين حيث «فناء أحدهما يعنى بقاء الآخر»، ويصبح للفناء داخل الصراع المصيرى معانٍ مختلفة تبدأ بإزالة المعالم الأصلية للخصم من خلال الاستئصال الجسدى وتتدرج إلى محاولة احتوائه حتى تستوعب وتذوب هذه المعالم وهكذا الصراع بين «الأمة العربية» بتراثها ومعالمها الثابتة وبين الكيان الصهيونى، الصراع هنا لا يقبل بديلاًَ آخر (الفناء) أو (البقاء) وكل عمليات التوفيق التى تمت منذ عام 1948م وحتى اليوم 2009، باءت جميعاً بالفشل وسوف تحكم هذه «النتيجة» منطق العمليات المقبلة لأنها تنطلق من إدراك لم يفهم- أو يفهم ولكنه يفتقد عنصر المواجهة والقرار المستقل- لهذا الوجه المصيرى للصراع يضاف إلى «مصيرية الصراع» «حضاريته وقوميته» فالصراع مع إسرائيل ليس صراعاً بين الفلسطينيين والإسرائيليين فقط وليس صراعاً على فلسطين فحسب ولكنه يمتد ليشمل المنطقة وإن زيّف البعض هذه الحقيقة. البعد الثالث: صراع اقتصادى: الصراع العربى- الصهيونى فى بعد آخر هو صراع اقتصادى فإسرائيل فى حقيقتها الداخلية وبنائها الاقتصادى ليست سوى رأس الحربة للشركات متعددة الجنسية وللدول الغربية وأمريكا تحديداً، والأمة العربية والإسلامية بثرواتها الطبيعية التى يحتل النفط مقدمتها تمثل التربة الخصبة لانتعاش هذه الشركات، وهنا منشأ الصراع- على هذا المستوى- إذ يمثل النفط العربى وغيره من الثروات مطلبا صهيونيا قديما!! وهو بهذا المعنى يسمى صراعًا حول الأطماع الاقتصادية لإسرائيل فى المنطقة أكسبتها التطورات الجديدة فى الاقتصاد والصناعات الإسرائيلية أبعاداً جديدة وإلحاحاً جديداً البعد الرابع: صراع حول الشرعية: الشرعية التى نقصدها هنا وبعد حروب إسرائيل المتتالية منذ 1948 على فلسطين وحتى 2009 على غزة، تعنى فى أوسع معانيها مصادر التبرير للوجود أو الحركة، بهذا المعنى المفهوم قد يضيق فإذا به لا يعدو الأساس الذى يستمد منه مصدر النشاط سبب حركته ولكنه قد يتسع فإذا به يضم ويحتضن كل ما يمكن أن يفرض نفسه على العقل أو الوعى الفردى أو الجماعى من مبررات لاستنفاد الطاقة فى اتجاه معين، بهذا المعنى شرعية الوجود الإسرائيلى ما زالت ناقصة رغم عشرات الاتفاقات من كامب ديفيد حتى يومنا هذا، وما مقولة شارون إبان الانتفاضة الثانية: (إن حرب 1948 لم تنته بعد) سوى تعبير حقيقى عن مأزق فقدان الشرعية فى وسط عربى يلفظها، بغض النظر عن مبادرات السلام العربية التى يطلقها حكام هم أصلا فاقدون للشرعية الشعبية الحقيقية، سواء كانوا جنرالات أو ملوكا يدّعون زورا أنهم يحمون المقدسات فى الوقت الذى تذهب فيه ملياراتهم إلى جيوب الصهاينة عبر صفقات السلاح الذى يصدأ- إن وصل أصلاً- فى المخازن، (هل تتذكرون صفقة اليمامة وأخواتها؟). البعد الخامس: صراع حول القدس: والصراع العربى الصهيونى فى أحد جوانبه المهمة صراع حول القدس كرمز ذى دلالة خاصة لدى طرفى الصراع، فالقدس تمثل بالنسبة للطرف العربى الرمز لوحدة التاريخ الإسلامى والعربى، والمنبع الذى التقت داخله الثقافة الدينية للمنطقة والرمز للصمود فى التاريخ العربى فى تجاه سلسلة الغزاة التاريخيين، القدس هنا تتعدى الإطار الجغرافى «كمدينة» إلى النطاق التاريخى «كرمز» وهى بالنسبة للدولة العبرية تمثل رمزاً أيضاً، رمزاً للرفض اليهودى وللحنين التاريخى للعودة إلى عاصمة داود وسليمان، كما تزعم الرؤية الصهيونية.. إذن: القدس أصبحت بهذا المعنى ذات وظيفة محددة فى الصراع، فمنها بدأ قبل عام 1948 وإليها يعود بعد حرب عام 2009 على غزة وقدوم اليمين الصهيونى المتمسك بها كاملة وبدون نقصان، ولن يكف طرفا الصراع عن صراعهما ما بقيت هذه المدينة- الرمز بل وربما أن القدس قد أعطت غيابياً وبشكل ما لهذا الصراع زخمه ومضمونه المعنوى والقيمى. البعد السادس: صراع متعدد الدوائر: والصراع العربى- الصهيونى صراع ذو دوائر متعددة فهو صراع شرق أوسطى تدخل فيه أطراف غير عربية بدرجات متفاوتة وفى مراحل مختلفة، ونشير هنا إلى إيران قبل وبعد سقوط الشاه وتركيا وربما إثيوبيا، وهو صراع ذو دائرة آسيوية بما يعنيه من موقف محدد لقوى القارة الآسيوية والتى يأتى الموقف الصينى والهندى والباكستانى فى مقدمتها، وهى مواقف بدأت تتغير لصالح العدو الصهيونى، وهو صراع ذو دائرة أفريقية أيضاً ونسجل هنا الدور الخطير الذى لعبه «الهستدروت» فى إعادة العلاقات المقطوعة مع دول القارة الأفريقية الغنية بالثروات الطبيعية، وكذلك الموقف المعروف لإسرائيل تجاه جنوب أفريقيا وقضايا التمييز العنصرى بالقارة. ■ إذن- يا سيادة الرئيس الجميل أوباما ويا كل منبهر به من مثقفى هذا الزمان_ الصراع العربى الصهيونى صراع معقد، ذو طبيعة خاصة متشابكة الأبعاد والمحاور والمستويات، وهو لم يكن للحظة واحدة صراعًا حول قطعة من الأرض، أو مدينة أو نهر، بل كان- ولا يزال- صراعا مصيريا ودينيا، صراعا حول القدس، حول حق البقاء ونوعيته. إن المطلوب عربياً وبعد صعود نتنياهو أن نعيد كنخبة- على الأقل- قراءة طبيعة الصراع، لعلنا بذلك نفهم واقعه، ونستشرف مستقبله بجدية كافية، بدلًا من الانبهار بخطاب هنا أو كلمة هناك لا تفك حصارا ولا تعيد أرضًا.. والله أعلم.