لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن إعادة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى ساحة الفعل السياسي من قبل السلطة الفلسطينية وحركة فتح لا صلة لها بالحرص على منجزات الشعب الفلسطيني أو الإطار الجامع لنضاله، بقدر صلة ذلك بالمناكفات السياسية مع حركة حماس، والتي أدمنتها حركة فتح منذ ظهور نتائج الانتخابات. والحال أن تهميش منظمة التحرير الفلسطينية لم يأت على يد حركة حماس، بل جاء على أيدي الذي يتباكون عليها هذه الأيام، وقد وقع ذلك منذ عام 1994 عندما تأسست السلطة الفلسطينية. أما حماس فإن من العبث مطالبتها بالاعتراف بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين وهي ليست عضواً فيها؛ لا هي ولا حركة الجهاد الإسلامي، فيما تتمثل فيها فصائل انقرضت من الوجود، وأخرى يتحالف اثنان منها من أجل الحصول على مقعد واحد في المجلس التشريعي. ولا تسأل بعد ذلك عن دلالة الاعتراف بمنظمة تخلت عن ميثاقها واعترفت ب 78 % من فلسطين للإسرائيليين ومررت اتفاق أوسلو ؟ نتذكر هنا أن موقف حماس من هذه القضية ليس جديداً، إذ ظهر مع انطلاقة الحركة نهاية العام 87. وقد تأكد ذلك عندما بدأت الحركة تصوغ حراكها السياسي وحتى الميداني في الانتفاضة الأولى بعيداً عن القيادة الوطنية الموحدة ، التي شكلتها حركة فتح بهدف احتواء الانتفاضة واستثمارها في سياق اللعبة السياسية ، ومن أجل إخراج قيادتها من العزلة في وقت كانت منظمة التحرير قد فقدت زخمها وحضورها إثر الخروج من بيروت عام 1982. خلاصة القول هي أن تمثيل منظمة التحرير للنضال الوطني الفلسطيني، وبتعبير أدق لكل الفلسطينيين قد بات موضع شك، ذلك أن جملة الجولات الانتخابية التي كانت تجري في الأراضي المحتلة منذ تأسيس حماس، بل حتى قبل ذلك بسنوات قد أخذت تؤكد أن حضور التيار الإسلامي، ولاحقاً بعد تأسيس حماس، قد بات يشكل نصف الساحة الفلسطينية، وعلى هذه الخلفية جرت نقاشات كثيرة حول إدماج الحركة ومعها الجهاد الإسلامي في مؤسسات المنظمة، لكنها كانت تنتهي إلى لا شيء، والسبب كما هو معروف يتعلق بإرادة فتح إدماج حماس على ذات القاعدة التي تتعامل من خلالها مع قوى اليسار، مع بعض التعديل البسيط، والخلاصة هي استمرار السلطة المطلقة؛ ليس لحركة فتح على المنظمة، بل للسيد ياسر عرفات يرحمه الله. في ضوء الجدل الجديد يمكن القول بكل بساطة إن حماس لا تمانع في الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً للفلسطينيين، لكن ذلك لن يحدث على قاعدة تغييب البعد العربي والإسلامي للقضية، كما لن يحدث قبل إعادة تشكيلها من جديد، وهي مسألة غدت ضرورة في ظل جملة من المعطيات المستجدة. من أهم تلك المعطيات ما يتعلق بالنتائج التي آلت إليها تجربة التفاوض طيلة العقود الثلاثة الماضية، ذلك أن سلسلة التنازلات التي قدمتها المنظمة تحت قيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات لم تفض إلى نتيجة إيجابية بالنسبة للشعب الفلسطيني، في حين جرى استدراج القيادة الفلسطينية من شعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر إلى برنامج السلطة الوطنية والنقاط العشر، إلى الاعتراف بالقرار الدولي رقم 242، إلى أوسلو وما انطوى عليه من تنازلات خطيرة، لاسيما بالنسبة لقضية اللاجئين، وصولاً إلى خريطة الطريق التي يضع الإسرائيليون عليها أربعة عشر تحفظاً. كان من الطبيعي وربما الضروري أن تشكل قمة كامب ديفيد صيف العام 2000 منعطفاً أساسياً في تاريخ الشعب الفلسطيني، بوصفها المحطة التي كشفت فضيحة التسوية وسقف ما يمكن أن يعرضه الطرف الإسرائيلي على نظيره الفلسطيني، لاسيما وأن من كانوا في السلطة في الجانب الإسرائيلي ذلك الحين هم أكثر قادة الدولة العبرية انفتاحاً على الإطلاق. لكن ما جرى بعد ذلك زاد الموقف سوءًا على سوئه القائم، إذ جاء شارون إلى السلطة ومضت القوى السياسية نحو اليمين، ما يعني أن المعروض على الفلسطينيين قد غدا أكثر بؤساً بكثير. المعطى الآخر الذي يحتم على الفلسطينيين إعادة تشكيل منظمة التحرير هو إعادة توحيد الداخل مع الشتات الفلسطيني ، بعد أن تفرقا زمناً لا بأس به؛ فعندما كانت منظمة التحرير في لبنان كان معظم ثقلها في الخارج، فيما كان ممثلو الداخل مجرد أرقام بلا وزن أو قيمة في المجلس الوطني، أما بعد أوسلو ونشوء السلطة الوطنية، فقد تحول الثقل إلى الداخل وجرى تهميش الشتات. صحيح أن عدداً لا بأس به من كوادر المنظمة ومقاتليها قد دخلوا مناطق السلطة، إلا أن ذلك لا يعني الكثير، لأن القضية لم تكن تعني المقاتلين أو الموظفين المتفرغين بقدر ما تعني أكثر من خمسة ملايين لاجئ ما زالوا يتواجدون في الشتات، أما الآن فبالإمكان الحديث عن وحدة الداخل والخارج، ليس فقط بسبب إمكانية دخول وخروج أهالي غزة، بل أيضاً بسبب إمكانية التواصل من خلال الوسائل التكنولوجية الحديثة، وحيث يمكن عقد مؤتمر في أي مكان بتوفير تواصل بينهم من خلال دوائر تلفزيونية، مع أن إمكانية تحرير معبر رفح على نحو كامل بحيث يمكن عقد المؤتمر في غزة لن يكون أمراً صعباً لو توفرت الإرادة. مسألة الشتات الفلسطيني مسألة بالغة الأهمية، وما من شك أن أوسلو قد همشها لحساب الداخل، وقد آن الأوان لتشكيل جديد لمنظمة التحرير يعيد الاعتبار للفريقين معاً، لاسيما وأن ثلثي الشعب الفلسطيني ما يزالون لاجئين. فكيف إذا كان فحوى الخطاب الرسمي العربي، وكذلك الرسمي الفلسطيني قد أخذ يتعامل مع هذه القضية بوصفها مستحيلة الحل خارج سياق التعويض وبقاء اللاجئين في أماكن تواجدهم في الشتات ؟ المعطى الثالث الذي يحتم إعادة التشكيل يتعلق بخريطة القوى الجديدة في الساحة الفلسطينية، ذلك أن التشكيل القديم لم يعد صالحاً في ظل التطورات التي برزت منذ نهاية العام 1987، وعلى نحو أكثر وضوحاً خلال السنوات الأخيرة، وهاهي تترجم على نحو حاسم في انتخابات المجلس التشريعي الأخيرة، وفي كل الأحوال فقد تأكد الآن أن حركتي حماس والجهاد ليستا رقمين هامشيين في الساحة، فيما تبين أن بعض قوى اليسار (باستثناء الشعبية) ليس لها سوى أرقام مجهرية، ليس في ساحة النضال والفعل وحسب، بل وفي الساحة الشعبية في الداخل والخارج أيضاً. لا يعني ذلك المطالبة بتهميش حركة فتح، بل ولا حتى قوى اليسار، بل هي مطالبة بإعادة النظر في التشكيل على النحو الذي يعبر عن الإرادة الفلسطينية، ليس فقط على صعيد الفصائل، وإنما على صعيد الفعاليات الشعبية والوطنية في الداخل والخارج. لا أحد ينادي بأحادية جديدة تتصدرها حماس، فهذه الأخيرة ترفض منطق الاستفراد بالقرار الفلسطيني الذي مارسته حركة فتح طوال عقود، وكل ما هو مطلوب هو إجماع وطني على القضايا الأساسية بالنسبة للفلسطينيين بدل هذه الحالة من التشتت والشرذمة، والتي تقسم الفلسطينيين بين متطرفين ومعتدلين، فيما لا يحصل من يسمون المعتدلين على ما يحفظ ماء الوجه. ثمة معطى آخر أفرزته الانتخابات الأخيرة، ويتعلق بفوز حركة ترفض مبدأ التفاوض مع العدو، أعني حماس، كما ترفض القرارات "الدولية"، فضلاً عن خريطة الطريق، وهنا قد يجد البعض فرصته للاستفراد بها بوصفها تتناقض مع شروط الوضع العربي والدولي، وهنا يمكن القول إن توفير إجماع حول قضايا التفاوض من خلال منظمة التحرير الفلسطينية سيحول دون ذلك الاستفراد، وسيجعل بالإمكان الحديث عن وحدة وطنية تتجاوز كل ما مضى ، وتتحدث عن تطبيق الطرف الآخر (الإسرائيلي) للقرارات الدولية من دون قيد أو شرط وبقوة المقاومة وليس عبر الاستجداء. من الممكن أن تشكل حالة الإجماع الوطني التي توفرت خلال انتفاضة الأقصى مرتكزاً لحالة إجماع مشابهة تعتبر هذه المرحلة مرحلة نضال وتحرر تستدعي الوحدة الشاملة وليس التناقض، فضلاً عن الاقتتال، أي أن تعتبر السلطة الفلسطينية مجرد منجز هامشي قياساً بما هو مأمول؛ هذا إذا كانت منجزاً بالفعل، الأمر الذي نشكك فيه بالطبع تبعاً لمعطيات كثيرة تؤكد أن وجودها ما يزال مصلحة إسرائيلية أكثر منه مصلحة فلسطينية. إن إعادة تشكيل المنظمة على أسس جديدة سيجعل منها مرجعية كبيرة تدير النضال الوطني إلى جانب إدارتها لحياة الناس الواقعين تحت الاحتلال، أكان مباشرة أم من خلال السلطة ما دامت موجودة، فضلاً عن الإبقاء على التواصل مع مجتمعات الشتات، بدل أن تبقى السلطة شكلاً من أشكال التخفيف على الاحتلال أمنيا وسياسياً واقتصادياً، فيما تتجاهل الشتات وهمومه الكثيرة، وإذا تذكرته فستبقى عاجزة عن مساعدته على نحو مقنع. المصدر : الاسلام اليوم