[email protected] منذ أن أنشئت المعارضة المصرية الرسمية بقرار المنابر الثلاثة، وهى تحمل عيبا بنيويا لم تستطع التخلص منه، بل أنه تجذر فيها مع مرور الأيام، وأصبح الوتر الذى تعزف عليه السلطة القائمة كلما زادت الظروف الموضوعية تأزما، وأصبحت مرشحة لإحداث تغيرا نوعيا فى حركة الجماهير. فالمعارضة الرسمية المصرية (ومعها بعض فصائل المعارضة غير الرسمية من الحركات السياسية)، تصارعت دائما فيما بينها على شغل مساحة أكبر لهذا الفصيل أو ذاك، داخل الفراغ الذى يسمح به النظام، ولكنها أبدا لم تعمل على توسيع هذا الفراغ على حساب مساحة السلطة، وفى الكثير من الأحيان لعبت بعض فصائل المعارضة أدوارا مع السلطة لتقليص مساحة أحد الفصائل المرشحة للتمدد والإنتشار، على حساب طموحات شعبنا وتضحياته وآماله.. ومن فعل تقلد مناصب فى مجلسى الشورى والشعب، ومنح أحزابا خاصة وعطايا سنوية تحت إسم دعم.. الديموقراطية.. ولعل هذا ما يفسر إلى حد كبير مع أشياء أخرى عزوف جماهير شعبنا الحكيم عن المشاركة فى هذه الأشكال والتنظيمات التى تجلب (الأرزاء).. وهى المصائب.. وتمنع (الأرزاق) لعامتها، وتؤدى إلى العكس لقادتها. ومن الظلم أن لا نستثنى من هذا أحد، فهناك محاولات عديدة لأشخاص وتنظيمات حاولت تجاوز هذه الحالة، ولكنها ضربت فى المهد.. بالتجميد أو الحل أو الضربات الإجهاضية الأمنية، أو بخليط من هذه الوسائل مجتمعة، وكلما كانت المحاولة أكثر جدية لتجميع قوى المعارضة وطاقات الجماهير من أجل التغيير، كلما جاءت الضربات أبكر وأكثر عنفا.. ولعل حالة حزب العمل.. والضربات الاستيعابية لكوادر الإخوان الوسيطة، وضرب الكوادر النقابية التى نسقت العمل النقابى فى إطار وطنى عام، هى خير أمثلة على ذلك. ولأن الظرف الموضوعى ضاغط بشدة، ويدفع بذاته حركات الفئات المختلفة إلى التحرك للدفاع عن الحدود الدنيا اللازمة للإبقاء على الحياة، فقد تجمعت كل الفئات، من أصحاب المعاشات، إلى المهندسين، وموظفى الضرائب، وأساتذة الجامعات، والقضاة، والطلاب، والعمال، والصيادين، والفلاحين، وسائقى سيارات النقل، والقطارات، والعاملين فى مراكز الأبحاث، وصحفيو الأهرام.. كل فئة تجمع أصحابها حول مطالب جزئية فئوية تعبر عن الإحساس بالأزمة، كما تعبر فى ذات الوقت عن إفتقاد الوعى بأسبابها العامة والحاكمة.. ويصدق هذا على الجميع مع إختلاف مستويات العلم والوعى لدى كل فئة. ولقد تبدى هذا الإفتقاد للوعى فى حرص كل فئة على التأكيد فى حركتها على: أن حركتها فئوية وليست سياسية. أن حركتها منبتة الصلة بأية حركات أو أحزاب سياسية. أن تكون تحركاتها فى تواريخ لا تتواكب مع تحركات فئات أخرى. أن تعلن بشكل أو بآخر عدم مشاركتها فى الاحتجاجات السياسية العامة. وكما حرص كل فصيل من فصائل المعارضة، على توظيف كل حدث لإبراز دوره على حساب الفصائل الأخرى، لرفع ثمنه لدى السلطة (أو بالأحرى ثمن قادته)، حرصت الحركات الفئوية على تمييز تحركاتها وعزلها عن التحركات التى تقوم بها الفئات الأخرى!!؟. وقد يكون أبرز مثال على حالة فقدان الوعى العام لدى هذه الحركات الفئوية، هو موقفها من إضراب يوم السادس من إبريل الجارى، فقد عملت كل الحركات الفئوية على عزل تحركاتها عن هذا اليوم، فاختارت لتحركاتها أيام تسبقه أو لاحقة له، وأعلنت بعض القوى عن مشاركتها، ولم تقل شيئا عن كيفية هذه المشاركة، ولم تنسق حركتها مع الآخرين، واكتفى البعض بمشاركة المراقب، فى تأكيد جديد لغياب الوعى، ويذهب البعض إلى أن العديد من الفصائل قد شعر بالارتياح حينما لم يخرج هذا اليوم على المستوى المطلوب، فقد كان نجاح يوم السادس من إبريل من العام الماضى.. مفزعا لبعض القوى التى لم تر فى هذا نصرا لإرادة الشعب، بقدر ما رأت فيه إنسحابا لدورها المتوهم، وتقلصا لمساحتها التى تحصل من خلالها على الامتيازات من السلطة، وصفقات المقاعد فى المجالس النيابية. قطاع الطلاب.. هو الاستثناء الوحيد على هذه القاعدة، فقد نسق الطلاب من كافة الفصائل حركتهم، وعلى إختلاف إنتماءاتهم، واتفقوا على الأهداف والوسائل، وتجاوزوا حالة التشرزم الحزبى.. وكما فى السبعينات من القرن الماضى خرجت أصوات لتقول بأن الطلاب هم أمل الحركة الوطنية المصرية.. وهو قول حق يراد به باطل، فهم بلا شك مستقبل وغد هذه الحركة، ولكن ما أيسر أن تنتقل عدوى أنفلونزا طيور المعارضة للحركة الطلابية، وهو ما حدث فى السبعينات، وما أثقل المهمة ليس على الطلاب وحدهم فحسب، بل على إى فصيل أو فئة أو قطاع منفردا مهما إتسعت صفوفه ومهما كانت قدراته. إن المهمة فى الداخل جد ثقيلة، وهى أهون وأسهل ما تكون إذا ما قورنت بثقلها وصعوبتها إذا ما ربطنا الداخل بالإقليمى، لندخل فى الحسابات الكيان الصهيونى والتعارضات العربية العربية، والحروب المذهبية والعرقية والمناطقية.. وما أقل شأن هذه الحسبة إذا ما وسعنا الرؤية لنشمل الحالة الدولية، وتأثيرات التغيير فى مصر على مجمل الموازين الاستراتيجية للقوى العالمية، وعلى خارطة التناقضات بين الأقطاب الصاعدة فى العالم.. وما يجب التأكيد عليه أن هذا الفصل بين الداخلى والإقليمى والعالمى ليس له وجود على أرض الممارسة الفعلية للحياة السياسية، وإنما جاء على سبيل التوضيح.. ورغم صعوبة وثقل المهمة، فإنها ليست فقط ممكنة، بل إن إنجازها ضرورة حياة، وشرط إنجازها، هو أن تتوحد قوى هذا الشعب بكل فئاته وحركاته السياسية ونقاباته، لمواجهة تحديات الداخل والخارج على حد سواء، خلف برنامج عمل وطنى شامل.. ولعل أول ضرورات هذا التوحد هو مواجهة وباء أنفلونزا المعارضة الذى أحبط حركتها على مدى أربعين عاما، وإلا سوف يتمدد المرض إلى صغار طيور المعارضة فى الحركة الطلابية، كما حدث فى سبعينات القرن العشرين، ولكنه هذه المرة سيختلط بأنفلونزا الخنازير.. ولن يرحمنا التاريخ.. فنحن.. ونحن فقط بيئة توالد هذه الفيروسات القاتلة.. إلا من رحم ربى.