لعل من نافلة القول التذكير بأن من أهم سمات الدولة المدنية الفصل والتوازن بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية..وينظم الدستور العلاقة بين هذه السلطات بحيث لا يكون هناك تغول لسلطة علي سلطة أخري، كما أنه يبين شكل وطبيعة عمل كل سلطة، وهكذا..وفي الدول الديمقراطية العريقة نري هذا الفصل والتوازن متحققا بشكل واضح وجلي..وعلي النقيض من ذلك الدول الديكتاتورية، إذ نجد السلطة التنفيذية في العادة متغولة علي كلا من السلطتين التشريعية والقضائية..ولعلنا لاحظنا ذلك في مصر خلال ال 60 عاما الماضية، حيث لم يكن هناك نظام حكم ديمقراطي علي أي نحو، وهو ما انعكس بشكل واضح في التدهور المخيف للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ناهينا عن التخلف العلمي والتقني والحضاري، الأمر الذي أدي إلي قيام الشعب المصري بثورته العبقرية في 25 يناير 2011 والتي أثارت إعجاب الدنيا، من حيث المفاجأة والسلمية وحجم من شارك فيها، فضلا عن انصهار الشعب بكل أشكاله وألوانه في بوتقة واحدة..غير أن الذي حدث هو الإطاحة برأس نظام الحكم فقط، بينما بقيت ثقافته وبنيانه وهياكله ورجاله.للأسف لم تسر الثورة في طريقها الطبيعي والمنطقي، وهو اختيار جمعية تأسيسية لكتابة دستور يحدد فيه معالم الدولة الجديدة..كانت هناك تعديلات دستورية (علي دستور سقط أصلا) واستفتاء عليها، فإعلان دستوري عده أساتذة القانون الدستوري انقلابا علي هذه التعديلات حيث أنه لم يتم استفتاء عليه، ثم انتخابات مجلسي الشعب والشوري علي أساس قوانين انتخابات معيبة، فتشكيل لجنة تأسيسية لكتابة الدستور الدائم، صدر بعد ذلك حكم قضائي ببطلان تشكيلها، ثم إصدار المجلس العسكري لإعلان دستوري مكمل قيد من خلاله صلاحيات الرئيس المنتخب الجديد، وصدور حكم الدستورية العليا بعدم دستورية قانون انتخاب مجلس الشعب وحله، واليوم يصدر الحكم بشأن عدم دستورية قانون انتخاب مجلس الشوري وحله أيضا، هذا فضلا عن الحكم الذي يصدر اليوم أيضا بخصوص بطلان اللجنة التأسيسية الثانية لكتابة الدستور(!).لقد أصدر رئيس الجمهورية قرارا بسحب قرار المجلس العسكري وإعادة مجلس الشعب للانعقاد..وقد انعقد المجلس فعلا لمدة 15 دقيقة، حيث أحال قضيته لمحكمة النقض للفصل في كيفية تنفيذ حله، رغم أن المحكمة ليست مختصة بذلك، وكأن الإحالة كانت لكسب الوقت أو ربما لوضع محكمة النقض في مواجهة مع المحكمة الدستورية..غير أن محكمة النقض قررت عدم اختصاصها في الموضوع..ثم أصدرت المحكمة الدستورية بدورها حكما ببطلان قرار رئيس الجمهورية الذي أعلن تراجعه خطوة إلي الوراء واحترامه لحكم الدستورية! وأصبحت بذلك قضية التشريع معلقة، فمن قائل إنها تعود إلي المجلس العسكري، ومن قائل أيضا إنها من اختصاص رئيس الجمهورية.نحن إذن أمام لوحة سيريالية شديدة العبثية والتشابك والتعقيد، اختلط فيها الحابل بالنابل، ووقف الشعب حيالها متعجبا مستغربا، ومنقسما أيضا..فالجزء الغاطس من جبل الجليد لن يستسلم..سوف يحارب معركته بكل شراسة وضراوة، مستخدما في ذلك بعض مؤسسات الدولة والحزب الوطني المنحل والكارهين للثورة من حزب الكنبة، فضلا عن التخويف والتفزيع من سيطرة التيار الإسلامي علي مقاليد السلطة في البلاد.في تصوري لا يمكن أن يكون هناك حل بعيدا عن استعادة ثقة الشعب المصري، صاحب السلطة الأصيل والحقيقي، وقد يتطلب ذلك عرض بعض قضايا الأزمة لاستفتائه عليها، كالإعلان الدستوري المكمل علي سبيل المثال..كما لايمكن أن يكون هناك حل دون السير قدما في تثبيت دعائم دولة القانون واحترام أحكام القضاء، علي اعتبار أن ذلك ضمانا للأمن والأمان والاستقرار..وأخيرا لن يكون هناك حل دون شراكة وطنية حقيقية، سواء علي مستوي مؤسسة الرئاسة، و/ أو شكل ومضمون الحكومة، وهذا الأخير سوف يضع حدا للانقسام أو يقلل من حدته من ناحية ، كما أنه سيعين بالتأكيد علي وجود أرضية قوية يمكن للرئيس المنتخب من خلالها مواجهة الجزء الغاطس من جبل الجليد.