وجه أسمر وجسد نحيل وثغر باسم هذا هو عم محمد كامل من في الوسط الأدبي لا يعرفه.. انه القاريء الوحيد من غير الوسط الذي يقرأ لنا أعمالنا بدأب وإصرار.. تنفد قروشه القليلة ولا تنفد أبداً رغبته في اقتناء كتاب لأحد الادباء وان كان مبتدئاً يخطو أولي خطواته. كان لقائي الأخير به يوم الاثنين 19 مارس حيث جاء لنادي القصة ليراني قال لي يومها عندما عرفت أنك ضيفة اللقاء جئت إليك يا ابنتي رغم مرضي فقد كنت بالانعاش الاسبوع الماضي..وفي نفس اللقاء غضب عندما لم تلتزم مديرة الندوة بموعدها ولم تأت الضيفة الأخري همس: لا تأتي هنا مرة أخري النادي أصبح خرباً!! قلت له مداعبة.. لكنني رأيتك فيه ألا يكفي هذا ليكون جميلاً؟! قال ضاحكاً ضحكته البيضاء أنا آتيك في أي مكان.. وعندما هممت بالانصراف أمسك يدي وقال: اسألي عني لا تغيبي ثم ادخل يده في جيبه وأخرجها بخفتة من اللبان وقال: هذا للدكتورة الصغيرة- ابنتي- قبليها لي. وعندما سألته هل أراك قريباً.. ودعني بنظرة صامتة وعيون مفارقة وهزة رأس لأعلي لم أفهم معناها الا حين وقعت عيني علي رثائه يملأ صفحات "الفيس بوك" سمعت صوت بكاء كل من أحب عم محمد كامل وحرص علي ان يرقد كتابه فوق مكتبته الثرية بأعمال مبدعين من الخمسينيات وحتي يومنا هذا. محمد كامل الصريح الواضح النقي الذي أطلق عليه الأدباء القاريء الوحيد فقد كان ذاكرة لكل ما ينشر بمكان إصداره وتوزيعه وسعره.. لم يكن ينتظر ان يهديه مؤلف كتابه كان يشتريه ويأتي ليناقش وبهذا الشأن اسمحوا لي أن أحكي لكم حكايات عن القاريء الوحيد تشير بمن يكون الرجل الذي أحببناه وبكاه القاصي والداني. * محمد كامل وفتحية العسال: التقي بفتحية العسال وكان زوجها عبدالله الطوخي معتقلا سياسياً وكانت تزوره في نفس التوقيت كان محمد كامل الشاب النحيل يجاهد ليسرب أوراقاً لمحمود أمين العالم في نفس المعتقل وعندما حاول الضابط منعه وكاد يدوسه بحصانه سارعت فتحية العسال ووقفت أمام محمد كامل لحمايته وهي الحامل في شهرها التاسع.. ابتعد الضابط احتراماً للسيدة التي كادت تقع تحت سنابك حصانه ومن يومها تحولت فتحية العسال صديقة لمحمد كامل ومرت السنوات والتقي محمد كامل بفتحية العسال في احدي ندواتي ولم تعرفه لعوامل السن غضب وثار عندما اعتقد انها تتجاهله وعندما ذكرتها قامت مهرولة اليه قبلته وضاحكته قائلة أين أنت أيها العجوز ولماذا لم تذكرني بنفسك لكنه قال في عزة نفس: لماذا أذكرك يجب ان تتذكريني كما أذكرك!! * الجيل الجديد حكاية ثانية: أثناء مناقشة رواية لأحد المبدعين بالندوة الاسبوعين التي تقيمها جماعة الجيل الجديد الأدبية وكان محمد كامل حاضراً رفع يده ليدلي برأيه ولان القاعة ممتلئة أجله مدير الندوة حتي يتحدث النقاد.. ثار وغضب وأقسم الا يدخل نقابة الصحفيين لحضور ندوة الجيل الجديد مرة ثانية واستمر غضبه لمدة عام ولم يعاود الحضور إلا عندما رجوته لحضور مناقشة عمل لي عندها خضع لابتزازي العاطفي ليغير موقفه. * عزة النفس والكبرياء: مازحني يوماً قائلاً: نفسي في كرشة ولحمة راس حلاوة نجاحك في الانتخابات شريطة أن أطهوها له بنفسي وجاء الرجل الطيب لمنزلي حاملاً معه أكياس من الفاكهة وعندما لمته علي ذلك وعاتبته نظر إلي قائلاً: أنا فقير حقا ولكنني عندما أزور ابنتي لابد من أن أحمل لها زيارة معي تأكد لي أنه عزيز النفس عندما يتصرف كأغني الرجال حتي وان لم يكن في جيبه ثمن علبة سجائره والكريم ليس الذي يحمل فقط زيارة لمن يدعونه وإما قصدت هنا كرماً حقيقياً فهو الذي يشعرك أنه في بيته وليس ضيفاً.. بل يطلب مني عم محمد كامل ان أعد طبقاً لزميل لنا يعشق هذه الاصناف ولو ذاقها من يدي سيكون سعيداً وحملها إليه وحدثني من عنده وصوته يزغرد قائلاً.. مش مصدق ان ابنتي هي التي طبخته. * سور الأزبكية والسيدة زينب: اتصلت به ذات مرة لأسئله عن مسرحية قديمة لألفريد فرج فأنا وكل الادباء نعرف ان لديه مكتبة عريقة فقال لي سأبحث عنها واتصل وفي نفس اليوم وجدته يحادثني عن سور الأزبكية ليتأكد من العنوان.. قلت له لم أطلب ذلك فقط أردت سؤالك ان كانت عندك؟ ولكنه لم يعرني اهتماماً وتوجه إلي السيدة زينب ليبحث لي عن الكتاب.. عرفت بعدها انه لم يجده وأنه أوصي أكثر من مكتبة به ولم يكن أمامي لمنعه من البحث الا أن أخبرته كذباً أنني وجدته. حكايات قد يعتقد البعض أنها مجرد ثرثرة لا طائل من ورائها لرجل ليس من الأدباء ولا السياسيين ولا المشاهير لكنه القاريء الذي عشق الكتاب وسعي إليه في كل مكان وحج وطاف وراء المبدع من مكان لآخر.. من هذه الحكايات أردت ان تعرفوا معي من هو محمد كامل الذي أحببناه والذي لم تكن حكايته معي أو مع غيري هي كل الحكايات هذا الرجل هو وجه مصر.. رجل رغم نحول جسده ومرضه ذهب للميدان يقول للشباب كلفوني بما تريدونه.. ذهب يحمل إليهم الماء والطعام وقد يكون طعامه وكل قروشه القليلة.. رحل أحب الناس واحترم نفسه فاحترمه الناس.. يأنف الكذب ويرفض النفاق. رحل مخلفاً مكانه خالياً وكأن الطيبين الذين يرحلون يأخذون خير هذا الزمان.. رحل محمد كامل الرجل الذي احترم الكتاب والكاتب وقدس الكلمة وتذوقها وأنفق لأجلها عمره وقروشه.. رحمك الله يا أيها الأب والمثقف الواعي وأشهر من مر علي حياتنا الثقافية.