بعيداً عن الفرجة والزحمة القاتلة التي تحاصرك حتي الوصول إلي صالة العرض في أي مكان بالقاهرة فضلت الراحة والبقاء في صحبة كتاب قيم أهداني إياه مؤلفه الزميل العزيز الناقد والمخرج التسجيلي المتميز هاشم النحاس.. الكتاب كما يشير العنوان يتناول أعمال المخرج عاطف الطيب الذي لا أتردد أبداً في اعتباره الأقرب إلي نفسي وسط كل المخرجين المصريين أولاً بشخصه الخلوق الدمث وروحه المصرية الأصيلة وثانياً أفلامه الواقعية الممتعة التي تعبر عن موقف فكري واجتماعي يعكس ما أؤمن به وأجله.. أفلام تمثل نسبة كبيرة منها من أفضل ما قدمته صناعة السينما الوطنية في مصر. ولم يمتدالعمر طويلاً بعاطف حتي يثريها بمزيد من التجارب الخصبة والمتنوعة والعاكسة بصدق لروح وأشواق وانكسارات الإنسان المصري في مرحلة حساسة جداً ومشتعلة من تاريخ مصر الحديث. وعندما يجتمع هاشم النحاس وعاطف الطيب داخل كتاب وأكون أنا القارئة وأنا لست بعيدة وجدانياً وفكرياً عنهما. فالمؤكد أن العائد المعنوي والمردود الثقافي يستحق الوقت والعزلة والابتعاد لوهلة عن الشاشة لكي أعود إليها ولكن في طقس آخر أقرب إلي "الفلاش باك". المادة الموضوعية للكتاب ثرية ومن شأنها أن تنعش الذاكرة وتستحضر أفلام عاطف الطيب وتضعني في حضرة هذا المبدع الذي أمتعنا ب"سواق الأتوبيس" و"البريء" و"الزمار" و"الحب فوق هضبة الهرم".. إلخ. في عمره الففيد "48سنة" أخرج 21 فيلماً أنجزها خلال 12 عاماً صار معظمها من كلاسيكيات السينما العربية. ويعتبر عاطف الطيب طيب الله ثراه ضمن مخرجي الثمانينيات الذين شكلوا في رأي المؤلف الذي نتفق معه بالتأكيد: "أنضج مجموعة من مخرجي السينما العربية حتي الآن ومنهم علي بدرخان ومحمد خان ورأفت الميهي "ألف رحمة علي روحهم" بالإضافة إلي خيري بشارة وداود عبدالسيد أمد الله في عمرهما وكلهم خرجوا من عباءة الواقعية المصرية التي بدأها كمال سليم بفيلم "العزيمة" "1939" وكامل التلمساني بفيلم "السوق السوداء "1945" ودشنها وأرسي قواعدها المخرج الكبير صلاح أبوسيف بمجمل أفلامه عامة "41 فيلماً" يقول هاشم النحاس.. أهم ما يميز عاطف الطيب أن جميع أفلامه ما عدا "قلب الليل" تجري وقائعها في الواقع المباشر الذي نعيشه. أي في نفس زمن انتاج الفيلم تقريباً وربما تمتد جذور بعض الأحداث إلي عقد أو عقدين للخلف. ولكن ما يجري أمامنا علي الشاشة هو ما حدث في زمن الفيلم يظهر ذلك في عناصر الملابس والديكور والشوارع وموديلات السيارات والأغاني إلي جانب التفاصيل الأخري مثل صور الرؤساء المعلقة ولا يستثني من ذلك فيلم "البريء" الذي اضطر لأسباب رقابية أن يكتب في مقدمته أن وقائع الفيلم لا تمثل الحاضر. ويشكل "المكان" ملمحاً من ملامح واقعيته المباشرة حيث يصبح دالاً علي الزمان. فعلي سبيل المثال. البنات في فيلم "ملف في الآداب" يتحركن في شوارع وسط البلد التي يعرفها المتفرج مثلما يتعرف علي موديلات السيارات وملابس الناس ولافتات المحلات ولذلك كان الطيب يميل إلي التصوير في الشوارع والأماكن الحقيقية. وهو بذلك يعد واحداً من رواد جيله في الثمانينيات الذين حرروا الكاميرا من قيود الأستوديو. وأضفوا علي أفلامهم بهذا الاتجاه نكهة واقعية. وكان عاطف الطيب من أكثر أبناء جيله حرصاً علي هذا الاتجاه. ومن أهم ملامح الطيب علي المستوي الشخصي ومن خلال أعماله حسه الوطني المتجدد وشعوره القوي بالانتماء الذي يؤكده مؤلف الكتاب حين يذكرنا بأحد المشاهد الجميلة والمعبرة في أفلامه. في فيلم "سواق الأتوبيس" 1983 يجتمع "حسن" "نور الشريف" مع أصحابه من "شلة الأروانة" الذين اشتركوا معا في حرب اليمن والنكسة والاستنزاف وحرب النصر في أكتوبر. يتذكرون بمرح يشف عن احساسهم بالفخر بعض الأحداث التي جمعت بينهم أثناء فترة التجنيد ويصاحب المشهد توزيع جديد لموسيقي "بلادي.. بلادي" التي تضاعف مشاعر الانتماء الوطني بينما تطل عليهم الأهرامات التي يربط بين هذا الانتماء والمجد القديم. وفي "كتيبة الاعدام" يختار عاطف الطيب أيضا الأهرام كخلفية وكذلك في فيلم "الحب فوق هضبة الهرم" 1986 ولكن في كل مرة يأتي في سياق مختلف وبدلالات مختلفة. ويشير المؤلف إلي سمة أخري من سمات واقعية عاطف الطيب ألا وهي تناوله للمشكلات المعاصرة المرتبة بالزمان والمكان "الآن" وليست مشكلة عامة يمكن أن تحدث في أي مكان وزمان. كذلك تتميز أفلام عاطف الطيب عن كل من سبقوه وكل وأقرانه بأنها في الغالب أكثر تعبيراً ذاتياًَ عن جيله أو هي تعبير عن جيل الفنان من خلال خبرته الذاتية. فكل أبطال أفلامه رجالاً ونساء من جيله تقريباً فهم جميعاً من شباب ما فوق العشرين في بدايات حياتهم العملية. وحتي منتصف الأربعين فيما عدا "أبناء وقتلة" حيث يمتد العمر ببطلته إلي ما بعد ذلك وهؤلاء الأبطال يمثلون جزءاً من حياته الخاصة التي تدور حول محاور أساسية تتمثل في تجربته بالتجنيد ومشاركته في حرب 73 ومعاناته من فساد السلطة ومعايشته لمرحلة الانفتاح. وعلي هذا النحو يمكننا أن نري عاطف الطيب نفسه في معظم أفلامه فهو "حسن" في "سواق الأتوبيس" "1983" الذي شارك في حرب 73 وخرج منها ليواجه اعصار الانفتاح بالمجتمع. وهو "علي" في "الحب فوق هضبة الهرم" "1986" الشاب الذي لا يجد ما يعينه علي الزواج في ظل البطالة المقنعة المفروضة علي هذا الجيل وسيادة القيم المادية للانفتاح. وهو "سبع الليل" المجند المخدوع في "البريء" "1987" وهو ضابط المباحث في "ضربة معلم" "1987" الذي يعي دوره ولا يستسلم لضغوط تاجر السلاح ومهرب المخدرات رغم ما يعانيه من ضيق ذات اليد . وهو "سائق التاكسي" في "الدنيا علي جناح يمامة" الشاهد علي الخال الانفتاحي في محاولته الفاشلة استغلال ابنة أخته القادمة من الخارج ومعها 3 ملايين دولار وهو "حسن" في "كتيبة الاعدام" "1989" الذي يحكم عليه ظلماً بسرقة أموال الجيش الثالث أثناء حرب 73 ويخرج للانتقام من السارق الحقيقي الذي أصبح من كبار تجار الانفتاح. حتي "ناجي العلي" في الفيلم الذي يحمل اسمه كان نموذجاً آخر من نماذج نفس البطل المتمرد علي أوضاع مجتمعه الفاسد. إن مشوار عاطف الطيب القصير يشكل رحلة فنية وإنسانية وعملية ممتعة يزيد الشعور بأهميتها والاحساس بها كتاب المخرج الناقد هاشم النحاس عنها لأنه يدرك أكثر من غيره أماكن التفوق. وعلامات التميز وامكانياته الفنية كمخرج ابن زمانه الذي عاصر أحداثه وشارك في بعضها وكان زمناً متخماً بالأحداث ومثقلاً بالجراح ومزهوا بالانتصار ومحبطاً بتداعيات الانفتاح. ويضم الكتاب إلي جانب رصد المؤلف وتناوله لأفلامه شهادات الكبار مثل نجيب محفوظ الذي يقول "فجعت حين علمت بخبر وفاة عاطف الطيب. فرغم أنني لم أقابله إلا أنني كنت أكن له إعجاباً شديداً وذلك بعد أن شاهدت فيلم "الحب علي هضبة الهرم" لقد اكتشفت فيه عبقرية واعدة وعجبت حين علمت أنه مازال شاباًَ وتنبأت له منذ ذلك الحين بمستقبل كبير في السينما". ويقول: "لقد قدمت السينما المصرية عشرات الأفلام لي لكني أعتقد أن "الحب فوق هضبة الهرم" من المعالجات السينمائية الجيدة". ويقول صلاح أبوسيف: "بعد أن مشاهدتي لفيلم "سواق الأتوبيس" إخراج عاطف الطيب رأيته علي الشاشة مالكاً ومسيطراً علي أهم ثلاثة عناصر بالنسبة لأي مخرج وهي: فكر سياسي اجتماعي واضح يؤمن به ويدافع عنه". "تعبير بالصورة يعكس وجود لغة سينمائية جميلة". "قدرة علي التعامل مع العنصر الصناعي من ديكور إلي المونتاج إلي الموسيقي". ويقول رائد الواقعية أبوسيف في موقع آخر عن عاطف الطيب: "فيلم وراء الآخر دخل عاطف الطيب إلي عقلي وقلبي بدرجة عجيبة فلم يعد بالنسبة لي مجرد مخرج متميز من أبناء جيله.. إنه أيضا يشبهني فكراً وفناً وعندما كنت أشاهد أفلام الطيب كنت أتوقف أمام بعض المشاهد وأشعر كما لو كنت أنا الذي أخرجتها. وبالذات تلك المشاهد التي كان يصور فيها الحواري والشوارع الشعبية وشقق الطبقة المتوسطة بتفاصيلها الصغيرة الدقيقة.. إن شخصية مثل التي قدمها عاطف الطيب وأداها أحمد زكي في فيلم "الحب فوق هضبة الهرم" كنت سأقدمها بنفس الأسلوب إذا أخرجت أنا هذا الفيلم". ** كتاب "عاطف الطيب رائد الواقعية المصرية المباشرة" لمؤلفه هاشم النحاس جدير بالقراءة فعلاً. تقطع صفحاته ال289 وكأنك تستعيد أحداث فيلم جميل وممتد عن زمن عشناه وقضايا عاصرناها ومع شخصيات ليست غريبة عنا ومن صناعة إنسان عزيز ترك لنا هذا الميراث الطيب ثم رحل فجأة. فهذا تسجيل واف ومفيد وكاشف واعتذر عن ضيق المساحة.. ولكن الكتاب في السوق وتحديداً في المكتبة الخاصة بالمجلس الأعلي للثقافة ومن السهل الحصول عليه واقتنائه.